تفتح رواية “المهندس” للروائي الأردني سامر حيدر المجالي مشهدًا يطلُّ على مجمل التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي يمر بها الشباب العربي منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتقدّم ما يواجهون من هموم، وما يعيشون من نجاحات وإخفاقات على الصعد المهنية والإنسانية كافة.
وتدور أحداث الرواية في ثلاث دول عربية هي الأردن ومصر والإمارات؛ إذ تنطلق الأحداث من مدينة عمّان التي وُلد وعاش بطل الرواية “فراس” سنوات شبابه فيها، قبل أن ينتقل للعمل في إمارة دبي، وتبدأ من هناك شهادته على العصر الذي عاشه بتجلياته المتعددة؛ لا سيما تلك المتعلقة بعالم المال والأعمال.
وجاءت الرواية الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” في الأردن في 192 صفحة من القطع المتوسط، ويُسجَّل لها تلك الإطلالة الموضوعية على زمن ما زالت أحداثه ساخنة، ونقلها لتفاصيل يومية يعيشها الشباب العربي في مختلف البقاع التي تظهر خلال الرواية، مع أخذها بعين الاعتبار التداخلات الجغرافية والزمنية في مسرح الأحداث، إذ تعود بالقارئ إلى عقدي الثمانينيات والتسعينيات في الأردن كي تربط الحاضر بالماضي. وللغرض نفسه تعرض مجموعة من سمات الحقبة الناصرية، وتطوف بعهد الانفتاح في مصر، لتصب الرؤى جميعها في الأعوام 2010-2019 التي شهدت أهم مفاصل الرواية.
يصف البطل؛ فراس، مدينة دبي في إحدى الفقرات قائلا:
“المكان دائما صاخب، تشعر فيه بأنك محاصر بالفخامة، تطل عليك الأبراج كما لو أنها كائنات علوية تحرس المكان، يتوقف الزمن متى خالجك هذا الشعور العلوي، وينتابك خليط من الرهبة والاستمتاع فتمنحك اللحظة رحيقها كاملا.. على جانب الرصيف تقع عشرات المقاهي والمطاعم المزدحمة دائمًا ببشر من جميع الأعراق، يجد المرء عربا وغربيين وشرق آسيويين وأفارقة وأتراكا وكل ما قد يخطر بالبال من أمم الأرض.. يتجاورون على الطاولات وربما شكلوا مجموعة واحدة. الغالب على الناس هناك إلا قليلا منهم أن تتضاءل المسافات الثقافية والإثنية؛ ذاك أول ما يبدو للناظر، وهو ما يميز المدينة بوصفها مركزًا عالميًّا للأعمال والتسوق والسياحة”.
وتحرص الرواية كذلك على إبراز الثيمة الهندسية خلال أحداثها، فتقدم رؤى مكانية ذات طابع هندسي، وتتحدث عن سمات العمران في غير مدينة من المدن التي يرد ذكرها خلال السرد، وتستذكر معماريين أعلاما تركوا بصماتهم في الحضارة الإنسانية، بل إنها تعمد إلى المزج بين الهندسة والحالات النفسية التي يمر بها بطل الرواية، خالقة علاقة فريدة من نوعها بين الجانبين. تقول إحدى الفقرات:
“الإنسان هو الكائن الوحيد الذي تنطبق فيه قوانين الروح على المادة، والمادة على الروح. روحي تعاني من حالة تشبه الإجهاد الفيزيائي. تعب ثم راحة، ثم تعب ثم راحة، ثم تعب ثم راحة، ثم خيبة فأمل، فخيبة فأمل، فخيبة فأمل، هذا هو الإجهاد بعينه، أو ما يسميه الخواجات (Fatigue). ونهايته دائما انهيار كامل في المنظومة”.
أو في فقرة أخرى:
“يا إلهي، ما الذي يحدث! كيف يوجد الشيء في الوقت نفسه في مكانين؟! هذا لا يحدث أبدًا إلا خارج حدود المنطق. انهارت الأبعاد وتفتت الزمن، صار العالم هلاميا ولم يعد للهندسة من وجود البتة.. ماذا يبقى منّا إذا اختفت الهندسة وفقدنا اليقين؟”.
ولم تخل الرواية من جانب صوفي فلسفي، لا سيما مع معاناة بطلها من كآبة شديدة لازمته طوال مراحل الرواية..
يقول البطل واصفًا هذه الحال: “إن كل ثانية من الكآبة تمر بي في هذا العالم تعادل أبدية من السواد. إذا كان ربك قد أتقن صنعه فلا بد أنه أودع في هذا العالم أسباب سعادته، فلماذا نتخلى عنها بذريعة ننسبها إليه وهو الخالق؟! هذا ما أؤمن به، وأراه من حسن الظن بالله واليقين بعدالته ورحمته”..
ومن الجدير ذكره أن سامر حيدر المجالي روائي وباحث أردني في مجال التصوف والفلسفة، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في الهندسة المدنية من الجامعة الأردنية، والماجستير في إدارة الأعمال من جامعة نورثامبتون البريطانية، وقد صدر له قبل هذه الرواية:
“شياطين في حضرة الملكوت”.. بحوث عرفانيَّة وفلسفيَّة (2017)، “أكمام الحب والغضب”.. نصوص (2019)، “المؤابي”.. رواية (2020)، “شهود من أهلها”.. جمع وتحرير (2020)، “مع الحياة نظرات في صفاتها وأسرارها”.. فلسفة (2021).