أحمد الشيخاي : نموذجية زرقاء اليمامة
{عبر التاريخ ، تكررت نماذج تدلل على تعدد أدوار المرأة في الحياة ،من مختلف زوايا التشييد والبعد النهضوي، لتظل تلكم القوة الناعمة ،ومدرسة الأجيال كما اللبنة الأساس للأسرة والمجتمع . في ضوء سيرة زرقاء اليمامة، وقد اشتهرت بنظرها الثاقب واتقاد بصيرتها ، حتّى أنها استطاعت رؤية القادم على مسيرة ثلاثة أيام ، كما في الأثر، تجاوزا للملمح الغرائبي في قصص على هذه الشاكلة ، كيف للمرأة امتلاك مثل هذه الطاقة المذهلة في البناء الإنساني والحضاري، في سياق يترجم التشبّع بروح العصر والتطبّع بمعطياته..؟}.
تكررت عبر التاريخ نماذج كثيرة لعبت فيها المرأة دورا مميزا، باعتبارها جزءا مهما في بنية المجتمع، ولم تتخلى عن ذلك الدور رغم ما جابهها من ظروف ومحاولات لتحجيم ذلك الدور، فكانت فاعلة اجتماعيا وثقافيا رغم تفاوت هذا الدور والمساحة التي أخذها في بعض الدول، وخاصة الدول العربية، فقد أثبتت بأنها تمتلك مقومات تؤهلها للعب دور بارز في صناعة قدرها أولا وقدر المجتمع أو البيئة التي تنتمي إليها، حتى أنها في بعض الأحيان بنت من تلك العراقيل جسورا لتعبر عليها إلى الضفة الأخرى، وإن اختفت بعض تلك العراقيل إلا أنها لازالت متشربة في خطاب مجتمعها إن كان على مستوى الثقافة أو التقاليد الاجتماعية أو حتى اللغة، ولكن التاريخ اثبت أن المرأة قادرة عبر الزمن أن تروض كلما وقف أمام نهضتها واكتشافها لحقها بالعيش والكرامة، وأنها إنسان كامل الأهلية ليكون جزءا فاعلا وصانعا للحياة، وباني لتطلعاتها بصورة علمية وواقعية، عكس الصورة التي كرست لأزمان طويلة، وأصبحت صورة نمطية للمرأة العاطفية الضعيفة ،التي تستغل أنوثتها للإغراء والمكر وحياكة الدسائس، الصورة التي بنتها الثقافة الشفهية التقليدية، بحكاياتها ونوادرها، وخاصة حكايات ألف ليلة وليلة.
وهذا لا يعني أن ذلك التراث يخلو من صور مشرقة حفظها للمرأة، والتي لعبت فيها دورا فاعلا أثبتت فيه أنها تمتلك بصر وبصيرة، ولا تخفى علينا القصة التاريخية القديمة التي كانت بطلتها زرقاء اليمامة،التي اشتهرت بنظرها الثاقب واتقاد بصيرتها،حتّى أنها استطاعت رؤية القادم على مسيرة ثلاثة أيام، كما في الأثر، وتجاوزا للملمح الغرائبي في هذه القصة أو ما يشاكلها، إذ كيف للمرأة امتلاك مثل هذه الطاقة المذهلة والغريبة؟ تظهر لنا هذه القصة نظرة مغايرة عن المرأة، بعيدا عن تلك الصورة التي أطرتها من زمن بعيد، حيث نرى حجم الدور الذي أوكل للمرأة، وانتقاد ضمني للمجتمع الذي رفض أن يأخذ بروايتها، لأنه واقع تحت هيمنة تلك الصورة النمطية التي تنتقص من المرأة، وتجعل منها عقلا و وجودا ناقصا. وغيرها من القصص التي حفظها لنا التاريخ والتراث لنساء كنّ تمتلكن بصيرة ومؤهلات تجعلهن بمصاف الرجل، كما هي الخنساء مثلا، المرأة الشاعرة الشجاعة، لذلك تظهر تلك المرأة نموذجا مشاركا في التشييد والبناء الإنساني والحضاري للأمة وللمجتمعات، وان كان في سياق مشبع بروح عصر هو متطبّع بمعطياته، لذلك فلكل عصر نساءه ولكل أمة نماذجها المشرفة من تلك النساء، اللائي أصبحن رموزا لنضال المرأة وحضورها داخل مجتمعها. فقد قيل: إذا أردت أن تعرف رقي أمةٍ فعليك بالنظر إلى نسائِها.
عندما نتأمل هذا الكون بخالقه نعرف سر الإبداع فنقف بذهول، عندما اختار شريكين يتقاسمان العيش في هذا الكون، ويوزعان صفاتهما على أشيائه، فالشمس أنثى والقمر ذكر، والغيمة أنثى والمطر ذكر وهكذا فهما يتقاسمان الحياة بسعادتها وقسوتها بشرقها وغربها، كلاهما ينتميان إلى هذه الأرض، فاتزان الكون يعتمد على وجودهما معا.
المرأة هي تعداد لانهائي لمسميات وصفات ورموز، فالآلهة الأولى كانت امرأة، لأنها مصدر الحياة، ورمز للوجود،فهي الأم_ الأرض الخصبة التي تعطي وتعطي دون مصلحة أو منية أو مقابل، وهي عماد الحياة الصلب الذي لا ينحني مهما عصفت به العواصف، تبق شامخة أمام أولادها، أو هي عرين الأسد(الرجل) الذي يلجأ إليه، كلما صادفه ألم أو متاعب، يختبئ به كجنين، أو كطفل يبحث عن الدفء والأمان، كلما شاكس أو زل او صادفته مشكلة، فهي الحضن الدافئ لتبريد الروح والوجع، وهي من تفرش الأرض زهرا، وتجعل من نفسها جسرا ليعبر عليها بناؤها إلى مستقبل باهر، لأنها تمتلك بصيرة الأم المعطاء ،وان كنا لا نختزل دورها في صورة الأم فقط، وإنما نقصد صفة العطاء، والتي هي صفة أصيلة فيها، فالعطاء هو بصيرة من نوع آخر، لأنها تنظر إلى الكون من زاوية أخرى، ربما لا يشاطرها إياها رفيقها الرجل، بصيرة الأم، التي هي صفة غريزية بالمرأة. فإليها:
[إلى من نحتتْ بإزميل الحنانِعلى سفوح العدم وجودا
إلى من هزّتْ مهد الأيامِ
ووهبت من صدر عافيتها عمرا
إلى من ناداها الرب
ورمي مفاتيح جنانه تحت رحمتها
أقول:
كم هو عظيم تقمصك الصلابة
ووقوفكِ على خشبة السهر
لتصنعي من رحم الظلام بدرا
تصفق له كفوف نجومه
أماه
الصلاة التي نلوذ بها…
عارية الأشياء دونك
لا قبلة تستوطن وحشتي
و لا بسمة تجمع شتاتي
شوارعي باردة
تُرى من يكسو خطواتها
بفصول ملامحك
أماه
لم تتهشم يوما ذكراك
ولم تغادر عصافير الشوق
أعشاش همساتك
أعدك
أن أنثر الليل
لتمتلئ سلال أحلامي
بِخَرَزِ حِكَايَاتِكِ
أخيرا.]. ، فالمرأة هي ركيزة المجتمع وأساسه فمنها بدأ واليها ينتهي بموته وحياته، بانطلاقه نحو النجاح أو الهاوية، فالمرأة بكل صفاتها، وتشكلاتها، هي الروح التي تدير الحياة، ببصيرة تشابه بصيرة الصقر التي ترى ما لا يرى خلف ملامح هذا الكون، بكائناته وعواصفه وزوابعه، وصفاء جوه وتعكره، فالمرأة هي الوجود.