رمزية العنوان
يعتبر عنوان الرواية بصيغته مزدوج الوظيفة، فهو إذ يشير إلى ما يعتبر عاديا في وجباتنا اليومية “تناول قهوة بحليب” يحمل دلالة أخرى تتعلق بقيم ومبادئ ذات صلة بالمساواة وبالتعايش بعيدا عن التفريق بين الناس استنادا إلى ألوانهم.
عنوان رامز إلى العنصرية التي عششت في أذهان الملايين من مختلف بقاع العالم، يشهد ذلك حتى في الدول التي تدعي وتتبجح بالديمقراطية وحقوق الإنسان. فالحليب يحيل على “ميادة” امرأة من سوريا باعتبارها بيضاء البشرة، والقهوة تحيل على “مامامدو” من ساحل العاج، وبين التفاعل المبني على الحيطة والحذر من جانب ميادة بالخصوص، سيتوافقان ويختلطان فيتحولا إلى مشروب سائغ مطلوب “قهوة بحليب”.
عنوان الرواية بهذه الصيغة يعتبر بوصلة تنحو تجاهها كل أحداث الرواية رغم القضايا الفرعية التي تتقاسمها والتي يؤطرها هاجس الهجرة بأي الطرق هروبا من الخطوب والمنغصات التي تضج بها بلدان.
وكأن الرواية تترجم فحوى المراد من هذا العنوان، لتدفع بك كي تقتنع بإمكانية، بل بوجوب التقارب والتلاحم بين الناس بغض الطرف عن ألوانهم وجنسياتهم كما نخلط القهوة بالحليب كي تفضي إلى مشروب لذيذ ومنعش. وبذلك يجد القارئ صراعا بين لونين تمتد جذوره في التاريخ السياسي والاجتماعي والأدبي مما أفضى به ليكون صعب التهدئة والإزالة حتى في عصر المناداة بحقوق الإنسان وتشديد العقوبات على مستبحيها.
محنة الشخصيات
من بداية الرواية حتى النهاية يعيش القارئ أجواء مضطربة تجعله يتعاطف مع شخصياتها فيتألم لألمها ويترقب تحقق طموحاتها، ويحذر من ازدياد معاناتها المتنوعة والمتعددة بين رحلة وأخرى في طرق وأماكن تضج بأمثالهما من المشردين الباحثين عن الأمن وتحقيق ظروف عيش مقبولة وسط المخاطر والعصابات التي لا تعرف سوى المال والمصالح الشخصية. وهي أوضاع ما تزال قائمة في أوساط المهاجرين والمهاجرات إلى اليوم، وهم تراودهم أحلام يرون فيها البديل، وفي إهداء الرواية ” إلى أولئك الذين يركبون الآلام سعيا وراء الأحلام” ص 3. إنهم المهاجرون السريون الذين تجعلهم الظروف يلتقون، وترغمهم الحاجة فيتواجهون رغم ما يحمله كل منهم إزاء الآخر انطلاقا من الثقافة والنظرة التي تشبعوا بها من مصادر مختلفة ” يصفوننا بالسريين، والسري مرادف للخفي المستور المتواري غير الظاهر… ونحن أوضح من نار على علم، لا تخطئنا عيون حراس الحدود، والشرطة والدرك… مصوبة على الدوام نحونا النظرات لا تخطئنا السهام والضربات، مراقبون مهما حاولنا التسلل ولو في الأمكنة غير المراقبة… عندما نظرنا إلى بعضنا أول مرة، عن قرب، أمام مسجد ميرمار بعيد
صلاة الجمعة بمدينة مارتيل شمال المغرب، تكوّن لكل منا نظرة سالبة عن الآخر، نحن المحتَقرون لنا أيضا حق أن نحتقر
شعرت بالغثيان لزنجي متسخ متسول يستجدي قلوب المصلين، ثياب مهلهلة على جسد طويل شوته شمس إفريقيا، قطبت أنفي واستنشقت مرتين متتابعتين كمن يتحسس شم رائحة كريهة… لوحت بيدي اليمنى أمام أنفي
متظاهرة بطرد رائحة أزعجتني… بشرة سوداء لن يكون تحتها إلا قلب أسود يعشق الانتقام، يجيد الاحتيال والخديعة، لو أتيحت له فرصة لافترسني شر قتلة، ولعبث بجثتي كما فعل أولئك الأوباش بزوجي باسل هناك بسوريا في حماة الجريحة……”ص5.
من هنا سينطلق الروائي كي ينسج معركة السرد كي يغير من نظر هذا نحو ذاك، انطلاقا من معطيات كثيرة تعيد النظر إلى فيما هو مركون في أنفسنا من قيم ونظرة نحو الآخر المختلف عنا لونا وجنسية وبلدا… وقد أفلح في ذلك حين جعل من المتضادين ثنائيا جميلا يقطر نبلا وأخوة.
وإذا كانت المعاناة مفتاح معرفة كنه قيمنا النبيلة وصفاتنا الحميدة في حقيقتها وجوهرها، فقد قدمت الرواية الشخصيات في جو لا يكاد ينقطع عن الاضطراب والخوف والانتظار والتفكير في البدائل وامتهان أي شيء من أجل البقاء على قيد الحياة.
فكل عبارات وأوصاف الأمكنة وما يسري عليها من أحداث لا يخلو من الفجائع والفظائع المتناسلة من هنا وهناك.
تقول ميادة ” مـضغة أنا هربت من بين أضراس تطحن الأخضر واليابس في حماة، اعتقدت أننـي انفلتت من بين الطواحن، لكن وجدتنـي أعتصر في قناة ذات اتجاه واحد متعرج عفن، فرحت أني صرت على شفا المخرج العربي، قريبة من مجاري أوربا، انتظرت أن يـقذف بـي في فضاء أرحب عساي أجف و أتخلص من روائحكم الكريهة، لكنني فتحت عيني وأنا أسبح في عفونتكم، قانعة قابعة في واقعكم من جديد… مكومة أرتجف، ملفوفة بلحاف صوفي تنبعث منه رائحة جديدة خانقة، أحاول جاهدة إحكامه على جسدي بيدين مرتعشتين متعبتين، ارتجاف شديد تصطك له أسناني، لا أكاد أتحكم في أي عضو من جسدي، كل يرقص على إيقاعه الخاص، أحاول جاهدة تخفيف الارتجاف بلف البطانية بألوانها البراقة على جسدي فأشعر بها تمتص بلل ما بقي عالقا على جسمي من ملابس، لا أكاد أدرك ما يجري حولي، مجرد أصوات تنبعث كأنها صادرة من غيابات بئر عميقة بلكنة مغربية متسارعة “ص8.
معاناة كانت بصحبة مامادو الذي شاءت الأقدار أن يكون رفيق ميادة في رحلة طويلة ستنتهي بالزواج والعمل معا بعد فقدانهما المأساوي للمياء، التي عوضها الله لهما حين تزوجا برضى وحب واقتناع.
والروائي قبل حصول هذا التواؤم الفريد الذي يعتبر نموذجا يقتدى من أجل رأب الصدع الذي بين الناس بسبب ألوانهم وأوطانهم، مهد له بأحداث جعلته يلهب مشاعرنا ونحن نقرأ الرواية متلهفين إلى معرفة ماذا بعد، وما الذي سيقع بعد هذا السد وهذه المعضلة. وقد حصر عمق الأحداث في ميادة وممادو ولمياء قبل أن تموت موتا مؤثرا غير الكثير من الأمور. وكل الشخصيات المبثوثة في أحداث الرواية تعيش اضطرابا وأحزانا وهي تبحث عن مخرج يحقق بصيصا من أحلامها.
ويرجع سبب كل ذلك إلى السياسة التي تحرق الأخضر واليابس، ولا تعترف بإنسانية الإنسان حيث تتركه يواجه مصائر جلها أو كلها يحمل حتفه أو تعويقه.
” لعن هللا السياسة وما يأتي من السياسة التي تربك الزمن وتشوه الحقائق، تشعل النيران، تجعل الإخوة أعداء…. الانتخابات في العالم مجرد وسيلة الاختيار الحاكم، تنتهي بتبادل التهاني… لكنها في بالدي تمخضت فأنجبت وطنا يتناسل فيه القتل سفاحا بين طوائف لا تردد سوى ـ لوران غباغبو هو الفائز في الانتخابات والموت لمن يدعي العكس.
… – لا… الحسن واطارا هو الأجدر بالفوز، ولا مستقبل لساحل العاج دونه.
ـ إنكم واهمون الشعب قال كلمته…وقضي الأمر.
– وطارا هو الفائز والشعب قال كلمته… الحسن وطارا يستحق كرسي الرئاسة فقد تم إقصاؤه مرتين: في المر ة الأولى قلتم إنه إسلامي وأمه من بوركينافاصو، وتم تثبيت غباغبو رغم فوز ر وبير جيب، واليوم وطارا يكتسح الانتخابات المحلية وهذا الديكتاتور غباغبو لا يريد التنحي… إذا كان يريد إحراق البالد سنحرقها على رأسه… سنجعلها رميما… ” ص 14.
النص برمته يلامس جراح الناس في مجتمعات تتطاحن قلتها من أجل المناصب السياسية التي تغلب عليها الأنانية والمصالح الشخصية، والكاتب تعامل مع الأحداث والشخصيات بوعي المحلل الناقد وبوعي المبدع الذي يجعل الخطاب مؤثرا بعمق حين يعمد إلى مقوماته الإبداعية المتنوعة. ولم يكن في ذلك لا مفرطا ولا مفرطا، فقد قام برصد وقائع جرت وتجري رحاها في عالمنا غلى الآن وكل نشرات الأخبار تعكس يوميا مجريات الأحداث ومعاناة المهمشين الحالمين.
وقد تمكن الكاتب بالفعل من توصيل خطابه التوجيهي التربوي، إذ اشتغل على سلوكات ومعتقدات مكتسبة ترسخت فصارت من طبائع ثلة كبيرة من الناس.
معتقدات للتصحيح
يقول عبد الرحمن سعيد أبوشحاده “الرواية هي صرخة عالية ومدوية وضخمة، صرخة تسمع الكون صوتها، إنها تصرخ بأن الإنسان موجود على هذه الأرض وهو يعاني من العدم، يعاني من فكرة الموت، وأيضا يعاني أنه موجود على هذه الأرض ولا يعرف ما الذي يفعله في حياته، وصرخة ضد تفاهة الحياة ومللها وضد الظلام الذي يأكل كل جميل في حياته، وهشاشة كل المعاني المعطاء والتي تحاول أن تفسر الحياة (….) وعليك أن تراهن بأن المجتمع سوف يبتلع ولو على مضض الفكرة إن كانت صائبة، فكما يعرف التاريخ الأدبي بأن هناك كتب لم تحصل على التقدير التي تستحقه إلا بعد عصور …” [أهمية الرواية، الجزيرة ، بتاريخ 11/10/2016.]
حينما تنتهي من قراءة أي رواية لابد أن تترك فيك شعورا إزاء أمر تراه قائما ثقيلا يحتاج إلى تغيير، والحال أن قارئ رواية الكبير الداديسي سيجد تركيزها على نبذ العنصرية التي تشكل عنصرا أساسيا في الوقوف أمام تحقيق التعايش بوجه من الوجوه. فعبر الحوار الشيق الذي دار بين ميادة وممادو، وعبر ضربه لها للأمثال، وعبر الشعر العربي، تعيش في جو من التفاعل بين مؤيد مفترض للعنصرية بناء على اللون وبين من يرد أن يخلصنا من هذا المعتقد المشين الذي جثم على الجميل من صفتنا الإنسانية النبيلة.
أوف في كل لحظة يطلع لي هذا العبد ليخفف عني بعض ما يلم بي، حاولت انتزاع لمياء من حضنه، ورمي الكأس في وجهه… لكنها تشبثت به وأطلقت صراخها، وكلمتها المتقطعة: – عمو… عمو مامادو… لما هذا العبد لا يغتاظ لا يقلق، كأنما يريد أن يجـنني، كلما ابتعدت عنه وجدته أمامي يقترب مني أكثر، أشعره يردد بداخله قول عنترة:
سوادي بياض حين تبدو شمائلي وفعلي على الأنساب يزهو ويفخر
يعيب لوني بالسواد جهـــــــالة ولولا سواد الليل ما طلع الفجر
وإن كان لوني أسودا فخصائلي بياض ومن كفي يستنزل القطر.
في هذه الأجواء يدفع بك الكاتب كي تنخرط في الأفعال وردود الأفعال بين الشخصيتين رفقة لمياء فتنعطف بك الأحداث في دفع وجذب لتحط بك في واقع تواؤمي بين ممادو وابنتهما التي سمياها باسم لمياء المتوفاة ليعيش الجميع حياة أخوة ومحبة بعيدا عن الأفكار والقيم السلبية المفرقة بين الناس.
وأهم مبدإ يحافظ على العدل في المجتمع كما تقدمه الرواية تجنب الخيانة ، وبذلك ختم الكاتب عمله المشوق الجاذب بأحداثه وشخصياته المطاردة لأحلامها في عالم مليء بالتناقضات.
“ـ لا شيء يدمر بلداننا غير الخيانات الداخلية، فقد نتعذب كثيرا ونقطع أشواطا شاقة لإنجاز مشاريعنا لكنها تتهاوى بسرعة لخيانة من وثقنا فيهم، وأوكلنا لهم مسؤولية الإشراف عليها… إن الخيانة غاز يتسلل إلينا بمجرد فتح الباب، كانت أمي تقول إن الخيانة لا تنشأ إلا من الثقة الزائدة… نحن فتحنا الباب وثقنا في (كانو) أكثر من اللازم…كنا نعتبره واحدا منا، الخيانة تغفر لكن لا تنس أبدا… والمستقبل لنا، المستقبل في وحدة العرب وإفريقيا، وقتل الخيانة.”ص 123.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
+رواية ” قهوة بالحليب على شاطئ الأسود المتوسط “تأليف الكبير الداديسي، منشورات جامعة المبدعين المغاربة، فاس، 2021