عائشة البصري شاعرة وقاصة وروائية مغربية عضوة بيت الشعر بالمغرب، واتحاد كتاب المغرب… لها مجموعة من المنجزات الشعرية والسردية نذكر منها: مساءات 2001، أرق الملائكة 2002، بنات الكرز 2016، الحياة من دوني 2018…وغيرها كثير، وسنختار في مقامنا ومقالنا هذا رواية “كجثة في رواية بوليسية” التي صدرت سنة 2020 في عز أيام جائحة كوفيد 19 وفي أوج الحجر الصحي. وللإشارة فإن كاتبتنا فازت بجائزة كاتب ياسين للرواية بالجزائر سنة 2016 عن روايتها «حفيدات غريتا غاربو»، وكذلك جائزة سيمون لاندراي بفرنسا سنة 2017 عن قصائد مترجمه إلى الفرنسية من مجموعتها الشعرية «السابحات في العطش»،وجائزة أفضل رواية عربية في معرض الشارقة للكتاب لسنة 2018 عن رواية «الحياة من دوني».
برزتْ رواية “كجثة في رواية بوليسية” للكاتبة المغربية عائشة البصري كإحدى تجليات الإبداع الأدبي في زمن جائحة كورونا، حيث رصدت ببراعة التحولات التي طرأت على حياة الإنسان في ظل هذا الحدث العالمي. صدرت الرواية عام 2020، لتُجسّد في 156 صفحة من القطع المتوسط رحلة سردية مُتقنة ومُتفردة.
تميّزتْ رواية عائشة البصري بقدرة فائقة على حياكة خيوط السرد، فاتّسم أسلوبها بالبراعة والسلاسة، وجذبَتْ القارئ بأسلوبها اللغوي المُلهب والمشحون بالعاطفة. كما برزتْ عبقرية الكاتبة في توظيف تقنية “ميتا القصة” بذكاء، حيث أدخلتْ حكاية داخل حكاية، ممّا أضفى على الرواية عمقًا فكريًا وجذبًا تشويقيًا.
ولم تقتصر إبداعات عائشة البصري على ذلك، بل لجأتْ إلى تقنية حديثة تمثلت في جعل الساردة التي تروي الأحداث بضمير “الأنا” تعيشُ مرويتها كوهْمٍ وكابوسٍ لا وجود له على أرض الواقع. وفاجأتْ القارئ في نهاية الرواية بأنّ كل ما قرأه كان مجرد هذيان، ممّا أضفى على العمل لمسة فلسفية عميقة حول ماهية الحقيقة والخيال.
تفتح عيناها لتجد العالم قد اختفى، تاركًا وراءه فراغًا قاتمًا يلفّ جسدها المحموم المُقيد إلى سريرٍ أبيض بارد في غرفةٍ مجهولة. تبدأ رحلة غامضة للراوية، رحلةٌ بين الحياة والموت، بين الواقع والخيال، في زمنٍ غامضٍ يُسيطر عليه وباءٌ قاتل.
يظهر أمامها رجلٌ عسكريّ بزيّه الرسمي، يُقدّم نفسه كمقرّرٍ مكلفٍ بإنهاء تقرير عن حياتها. يُخبرها ببرودةٍ مُرعبةٍ أنّها ليست سوى جثةٍ في مركزٍ لتجميع الموتى، وأنّها تُواجه موتها الثاني. يُحفّزها على تذكر تفاصيل حياتها، مُستخدمًا أسلوب الترغيب تارةً والترهيب تارةً أخرى.
على طاولةٍ مقابلةٍ للسرير، تجلس امرأةٌ أمام جهاز كمبيوتر، تُدوّن بدقةٍ كلّ ما يجري في الغرفة. خلف الباب المُغلق، يُصدح صوتٌ مُخيفٌ من خلال مكبّرٍ للصوت، يُنذر بحالة طوارئٍ قصوى. فيروسٌ غامضٌ وقاتلٌ يجتاح كوكب الأرض، حاصدًا أرواح الملايين، تاركًا وراءه دمارًا وفوضى عارمة.
تُصبح ليلةٌ واحدةٌ شهورًا طويلةً في هذا المكان الضيق المُزدحم بآلاف الجثث الموبوءة. تتشابك الأحداث العالمية الخطيرة مع أسرارٍ شخصيةٍ ظلت دفينةً في أعماق الراوية. في هذه العوالم الغرائبية، حيث تختلط حدود الحياة والموت، يسعى كلّ من العسكريّ والمساعدة والجثة لكشف سرٍّ ما يُخفي هذا المكان.
من يملك السرّ الحقيقي؟ من منهم يقف على حافة الموت، ومن سيبقى في دائرة الحياة؟ وأين ذهب العالم الذي نعرفه؟
تُبدع الكاتبة والشاعرة المغربية عائشة البصري رواياتها بأسلوبٍ شعري فريد، مُمزوجًا بتأملاتٍ فلسفية عميقة، وغوصٍ في أعماق النفس البشرية، واستخدامٍ مُتقنٍ للمونولوج الداخلي. ينعكس شغفها بالشعر جليًا على كتاباتها، حيث تُنسج خيوط الخبرات الحياتية والتجارب الشخصية والمعارف الفكرية في نسيجٍ مُتقنٍ لشخوصها وأحداث رواياتها، ممّا يجعلها مُتجذّرةً في واقعها الخاص دون انفصال. وهي لا تخشى خوض غمار المواضيع الشائكة في كتاباتها الإبداعية، ففي هذه الرواية التي نحن بصددها، “كجثة في رواية بوليسية”، تُسلّط الضوء على زمن جائحة كورونا، وتداعيات الحجر الصحي، وانتشار الفيروس على مستوى العالم، وتأثيراته على البشر في لحظةٍ زمنيةٍ تُرجّح كفّتي الميزان بين الموت والحياة.
يجسد هذا النص السردي نموذجًا لامرأةٍ تعيش صراعًا داخليًا بين الوجود والعدم، فهي تارةً ما تكون حيةً تُصارع أعراض كورونا المُنهكة، وتارةً أخرى تُغمى عليها وتغوص في غيبوبةٍ تسترجع خلالها ذكريات عشر سنواتٍ من ماضيها القريب. بينما تُصبح في بعض الأحيان جثةً هامدة، أو ميتةً إكلينيكيًا أو بشكلٍ كامل، وذلك خلال الفترة الزمنية الممتدة من عام 2010 إلى 2020 داخل معزلها الغامض.
تُبرزرواية “كجثة في رواية بوليسية” قدرة الكاتبة الفريدة على تحويل الأحداث الواقعية، مهما كانت قاسية أو مُؤلمة، إلى أعمالٍ فنيةٍ مُلهمة تُلامس وجدان القارئ وتُثير تأملاته الفلسفية حول الحياة والموت، والوجود الإنساني في ظلّ الظروف الاستثنائية.
استلهام عائشة البصري لجائحة كورونا والعزل المجتمعي في روايتها “كجثة في رواية بوليسية” يثير أسئلة عميقة حول تأثير الأحداث الجسيمة على الأدب.فلا شكّ أن الأوبئة والحروب والثورات والكوارث تُخلّف آثارًا عميقة على مختلف جوانب الحياة، بما في ذلك المجال الإبداعي. فعلى مرّ التاريخ، استلهم العديد من الكتّاب والشعراء أعمالهم من الأحداث الكبرى التي عاشوها أو شهدوها، مُعبّرين عن مشاعرهم ورؤيتهم الفلسفية تجاه تلك الأحداث، ومُخلّدين ذكراها في ذاكرة الإنسانية.
إ نّ جائحة كورونا، كأحد الأحداث العالمية الفارقة في العصر الحديث، قد أثارت اهتمام العديد من المبدعين حول العالم، ممّا أدّى إلى ظهور موجةٍ جديدةٍ من الأعمال الأدبية والفكرية التي تتناول مختلف جوانب هذه الجائحة. وتُشير رواية عائشة البصري “كجثة في رواية بوليسية” إلى أنّ جائحة كورونا قد بدأت بالفعل بتشكيل ظاهرةٍ أدبية وفكرية عالمية،فمن خلال سردها المُبدع لحياة امرأةٍ تعيش صراعًا داخليًا بين الوجود والعدم في ظلّ جائحة كورونا والعزل المجتمعي، تُجسّد البصري مشاعر الخوف والقلق والوحدة التي عاشها الكثيرون خلال هذه الفترة. وتُثير روايتها تساؤلاتٍ فلسفية حول معنى الحياة والموت في ظلّ الخطر المُحدق، ودور الفنّ في التعبير عن التجارب الإنسانية المُشتركة.
ولكن هل يُمكننا القول إنّ فترة جائحة كورونا قد بلورت بالفعل فضاءً إبداعيًا مُتكاملًا ومشتركًا للإنسانية؟
كجثة في رواية بوليسية: رواية عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة 2020.
بقلم حسن لمين