شاعر لا يعرف المهادنات


*مجموعة ” يسقط شقيا” للشاعر محمد اللغافي

حياة الشاعر لا تحتمل الرتابة والملل،إنها حياة مفعمة باليومي والآتي على سبيل تأملات ورؤى تنساب قصائد لا حدود لها ،

فكما تتناسل الأفكار والأحداث تتناسل الجمل الشعرية لتشكل لب ما يصبو إليه كل مبدع أصيل .والشعر بغض النظر عن قواعده وما ألصق به من تسميات وتفريعات أسالت مدادا كثيرا فإنه لا بد أن يخاطب الأرواح ،فإن قبلته واستحسنته كان شعرا و إن نفرت منه واسبعدته كان غير ذلك وليبحث صاحبه عن تسمية أخرى له.
وإذن ،ما الذي يبحث عنه القارئ /المتلقي وهو يقرأ عملا إبداعيا ك ” يسقط شقيا ” لصاحبه الشاعر محمد اللغافي؟
كل قارئ /متلقي يبحث أساسا عن” لذة النص” كما أسماها رولان بارت،هذه اللذة التي يستشعرها مع كل حرف حرف ومع كل كلمة كلمة ومع كل جملة جملة.عندما التقيت الشاعر محمد اللغافي (وكنت قد التقيته قبل ذلك افتراضيا ) عرفت أنني أمام إنسان مولع بالشعر مهووس بالإبداع،ناقشنا الكثير من القضايا فكان ما شدني إليه فعلا هو أنه شاعر لا يهادن،لايجامل تماما كقصائد هذا الديوان المثير الذي يشيد فيه معبد للكلمة .اختار لديوانه عنوانا مركبا، من فعل فاعله غائب متبوعا بحال .وكما سبق له أن صرح في حوار مع الصديق المبدع رشيد الخديري في” أضمومة “يسقط شقيا”، هو عمل استثنائي حاول فيه السفر عبر الذات العاشقة وواقع كينونته كشخص مثقل بهموم العالم يستنزفه التفكير في ما هو أعمق من اليومي الذي يستعبدنا في المعيش المفروض …يسقط شقيا هو أَيضاً سقوط فاجر في عشق متعثر أو حلم عابر راوده ذات فجوة منفلتة”.
كل شاعر شاعر يحمل على عاتقه هموم الناس لا بد أن يلبس قصائده ثوب هذا الهم فتشاركه بذلك أحزانه وأحلامه،ولا يكتفي بذاته بل يقحم جميع عناصر الطبيعة في ذلك،لننصت إليه في هذا المقطع من قصيدة “كلها كاذبة يا أبي:
أبي
يا أبي
السماء
تمطر بالكاد
وجعا
وعيون الكادحين
بائسة
كما
ورقة الخريف… الخ
إن ما نلمسه في هذا النص هو سخط الشاعر عن الواقع الذي آلت إليه الأوضاع إذ فقد الثقة في كل شيء (الأنباء،الأم ،قصائد الأمل،الأحلام ،الرؤى،أناشيد الأطفال ،لافتات الحقوق….وهلم جرا)،إنه بذلك مخلص لليومي وما يدلنا على ذلك هو تأريخه للنص بعد الانتهاء منه(في يوم استثنائي خائن كالأصدقاء)..هل يعني هذا أنه يؤرخ لحدث ما ؟
يستمر هذا الألم مع رحلة الشاعر في الزمن (الدخيل) فيخاطب فيه الليل في حوار داخلي عميق يعترف له بحزنه الذي ينخر جسده ،هذا الحزن الذي تختلط فيه الأسباب في نص عنوانه أمنية /حلم يرجو الشاعر تحقيقه،إنه نص :أود فقط… أن أمتلك قبرا في بلادي ولعل ما يوحي إليه هذا العنوان هو الإحساس بضيق المكان رغم رحابته،إنه يحمل أكثر من دلالة ،فضيق المكان جعل الشاعر يشعر بأن كل شيء فقد مصداقيته :(الريح،عائشة الصغيرة،الأرض،الشمس،الليل…)،كل هذه المكونات التي نسجت خيوط هذا النص يوجهها الشاعر لتخدم حلمه فيقول:
أيها الليل الموجع
المدجج بخريف
وفراغ
وبعض النصوص البريئة
وصوت سعيد الشقي
وعائشة
وجسدي هذا الذي
يود فقط
أن يمتلك قبرا في بلادي.
تشكل القصيدة إذن عند محمد اللغافي ذلك الخلاص مما أصبح يشعر به ،إنها بحق الوطن الذي يبحث عنه الشاعر بعد أن تعذر عليه تحمل العذاب مما جعله يسعى جاهدا إلى البحث عن ملجأ جدير بتحمله،يقول في قصيدة حادثة شعر:
…فانزلي
أيتها القصيدة
من برجك
لتتناولي …عذابك العذب
الممرات شائكة
وأنا مازلت أكاشف
جبل الحزن
الحزن المتورم
غصة ..في نهاية الحلق
يا وطن الفصاحة
الممنوعة من الصرف
خبرني
كيف أخلع عنك عباءة المكر
كي ..تبتئس…
وإضافة إلى كون القصيدة الملجأ الآمن للشاعر فإنه لا يستسهلها بل يعتبر كل من يرى كتابة الشعر قضية سهلة مجرد شخص حالم وواهم ،لننصت إليه في بداية القصيدة وهو يعبر بصدق عن ذلك:

يتهيأ لك …سيدي
فبدا لك البحر ..قريبا من بابك
وبدا لك الشعر..
نهاية الكلام
فالشعر إذن ليس مجرد حادثة عرضية كما يعتقد البعض ،بل اشتغال عميق على اللغة بشتى مكوناتها ،وإلا أعلن الأدب إفلاسه ،لذلك أشرنا في السابق إلى أن الشاعر محمد اللغافي شاعر لا يهادن إذا ما تعلق الأمر بالقصيدة،فإما أن تكون شعرا وإما غير ذلك ،وهذا ما يفسر قلة “جمجماته” بالفيس بوك،إذ لا يوزعها مجانا،وهو لا يتوانى في إبداء آرائه التي قد تبدو للبعض جارحة ،فكما نلمس صدق الكلمة في قصائده فكذلك في آرائه التي قد تجلب له عداء الكثيرين ممن يحبون نفاق الرأي وبلادة “الجمجمات”.
وإلى جانب ما ذكرناه سابقا ونحن نتفحص قصائد “يسقط شقيا ” نستشف أن تيمة الحب تحضر بقوة في أغلب النصوص ،وكأن الشاعر في بحث دائم عن هذا الإحساس الجميل في كون أصبح يشعر فيه بالغربة.في قصيدة الموناليزا يقول:
لك القلب
مكانا للاسترخاء
تمددي كما تشائين
فأنت الوله الأول والأخير
إن اشتغال الشاعر محمد اللغافي على نصوصه اشتغال فيه الكثير من الإبداع ،فلغته لغة متماسكة تدل على أن صاحبها متمرس في فعل الكتابة،إنه يكتب بوعي كبير وباحترافية.

بقلم محمد جعفر

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات