عمّان –
في مجموعته القصصية “فالس الغراب” الأخيرة، يوظف القاص الأردني يوسف ضمرة أجواء الفانتازيا والغرائبية، حيث الأحداث مزيجٌ من التشكيل والرسم والدراما والخرافة والسخرية السوداء، وحيث تقترب القصص من مناخات الكابوسية، وتتحرك ضمن أطر غير واقعية وإن امتلكت منطقها الخاص.
تتسم المجموعة الصادرة عن “الآن ناشرون وموزعون” بعمّان (2021)، بلغة مرنة قادرة على الجمع بين الحقيقة والخيال، وبقدرتها على نقل ما وصفه ضمرة بأنه “مكتوب في مكان ما”، في إشارة إلى الخيط الشفيف الذي يجمع القصص جميعها، وينهلُ من أحداث تكسر أفق التوقع عند القارئ، وتنقله إلى مستويات حسيَّة غير مألوفة.
وتضم المجموعة 33 قصة تتوزع على 150 صفحة وتتنوع في طبيعة المشاهد التي تقدمها، وإن بقيت منتظمة ضمن إطار بمنحها هوية مشتركة. وجاءت أكثر القصص في صفحتين لتقدم صوراً خاطفة تحدثُ فيها المفارقة قبل أن يُختتم المشهد لينتقل القارئ إلى قصة جديدة ومشهد خاطف جديد.
يقول السارد في مشهد يجسد أحد مفارقات العالم الفانتازي للمجموعة: “لا أعرف لماذا أصرّت زوجته أن تُدفَن ساقُه الخشبيّة وهي مربوطة بإحكام في ركبته وفخذه! ما الحكمة في ذلك؟ ولماذا لم تستمع إلى من أخبرها أنّ هذه الساق قد تفيد أحدًا يحتاج إليها ولا يملك ثمنها. لكنّها منذ الليلة الأولى التي أصبحت فيها وحيدة بعد انتهاء مراسم العزاء، استيقظت على صوت تلك الساق تدقُّ الأرض في اتجاه المطبخ… مشت إلى المطبخ وفرحت لأنّها لم ترَ شيئًا، كذلك توقّف الصوت تمامًا. عادت بعد أن قرأت المعوذتين وحاولت النوم. لكنّ الساق الخشبية عادت أيضًا إلى نقر الأرض برتابة ممزوجة بوحشة”.
ويقول في مشهد آخر يُظهر الجانب الأسطوري الذي كان له حضور في أكثر من مكان داخل المجموعة: “إنّ الصرخة تأتي من ملاك يرافق الطفل آن الولادة لحراسته، وإنّ الوليد ما إن يخرج إلى الحياة حتى يرى وجه الملاك فيشعر بالخوف ويصرخ. ربّما لهذا السبب أُشيحُ بوجهي عن الجدار ليلًا حين تتحرّك الظلال. قلت لزوجتي: إنّني لا أريد ستائر للنوافذ، ولا أريد صورًا أو أيّ شيء يُعلَّق على الجدران. وبعد محاورات وسجال وصراخ صمتت زوجتي مكرهة، واضطُرت المسكينة كلّما زارنا أحد أن تقول بعتب كبير إنني أنا الذي أمنعها من تركيب ستائر، وتعليق لوحات وصور وشهادات”.
وتظهر صورة الغراب في مشهد ثالث مؤكدة “ثيمة” المجموعة التي تكثر فيها مشاهد الألم والموت والخوف، وهي معانٍ يمكن ربطها بالغراب في الموروث الشعبي الذي ينتمي إليه المؤلف: “لكنّ البناية انهارت صباحًا، ومات الغراب وصاحب البناية في يوم واحد. وأثناء الحفر ورفع الركام، عثر العمّال على ثعبان ضخم متكوّم في أحد خزّانات المياه. انتقلتُ إلى بناية جديدة، وكان أول ما فعلته أن تفقدتُ خزانات المياه. لم يكن ثمة ثعابين في أيٍّ منها. لكنّ الغربان تملأ الحي، ونعيقها يملأ الفضاء. وبدون أيّ مقدمات انهارت البناية بعد أسبوعين. نظرت حولي وأنا أراقب الأغربة الجميلة، وأخمّن أيّ البنايات سوف تكون التالية!”.
وتنقل القصص كذلك مشاهد تمس الحروب والشيخوخة والسفر والفقد والحنين، وتمزج بين الموت والحياة، والمدن والمقابر، فبدت غنية بالتحولات، وفّاضة بالأسئلة التي تُركت صياغتها واستنتاج إجاباتها للقارئ.
يشار إلى أن يوسف ضمرة وُلد سنة 1953 في بلدة الكرامة في غور الأردن، عمل في الصحافة منذ نهاية الثمانينيات، أعدَّ مجموعة من البرامج الثقافية في الإذاعة الأردنية، نال جائزة محمود سيف الدين الإيراني للقصة القصيرة من رابطة الكتّاب الأردنيين سنة 1993 عن مجمل أعماله، وجائزة الدولة التشجيعية في مجال القصة القصيرة من وزارة الثقافة سنة 1995 عن مجموعته “عنقود حامض”، وجائزة وزارة الثقافة للإبداع عام 2016 عن مجموعته “دوزان”.
ومجموعة “فالس الغراب” هي الإصدار الرابع عشر لضمرة، وصدر له قبلها عدة مجموعات قصصية من بينها: «العرَبات»، «نجمة والأشجار»، «المكاتيب لا تصل أمي»، «اليوم الثالث في الغياب»، «ذلك المساء»، «مدارات لكوكب وحيد»، «عنقود حامض»، «أشجار دائمة العري»، «طريق الحرير»، «مراوغون قساة». وأصدر مجموعة قصصية للأطفال بعنوان «مذكرات قطّة»، ورواية «سُحُب الفوضى»، وصدرت «الأعمال الكاملة» له عام 2005، بالإضافة إلى أنه أعدّ حوالي 100 تمثيلية إذاعية مقتبسة عن أعمال عربية وعالمية مشهورة.