إن أفضل الروايات وأجدرها بالقراءة، هي تلك تتناول التجارب الانسانية الخالدة في فترة من فترات تاريخ البشرية، من حيث هو تاريخ معرفة تراكمت على مر العقود،وكان أثرها جليا وواضحا. لكن بعض المراحل منها شهدت منعطفات حاسمة أثرت على مسار التاريخ، وساهمت في بلورة بنية المجتمع في العصر الحديث.
ورواية “متشردا في باريس ولندن” للكاتب البريطاني جورج أوريل واحد من تلك التجارب التي تناولت بالدرس والتحليل ظاهرة التشرد ما بين الحربين ( 1917 _1945)، وهي تجربة مريرة، عاشها الكاتب كغيره من العاطلين عن العمل، تحت وطأة نظام ديكتاتوري فاشي يقدس المال ورجال السلطة ويتحالف معهم، للحط من كرامة الانسان واستغلاله، وترسيخ الفوارق الطبقية في كل شيء، حتى الأعمال الأكثر قذارة، والأمر قد يصل إلى جعل غاسل الصحون في فندق رخيص، بمثابة فخر لصاحبه، لأن عدم إيجاد عمل مثل هذا رغم حقارته، يعرض صاحبه لعطالة أيام، مما يعني جوع شديد، يدوم أياما وأشهر.
وتبين هذه الرواية النتيجة الحتمية والمنطقية للحروب، وما تخلفه في ذات الانسان من معاطب، يفضي بعضها إلى الخراب، وتزداد حدتها على الأفراد لتصبح حربا نفسية دائمة تقض مضجع الفرد، وكل ما حكاه الكاتب عن واقع فترة ما بين الحربين، يفوق الوصف، إذ يصاب الانسان بالدونية والاهمال، وأشياء أخرى تفوق تصور المرء، إذ يمكن أن تصل حدة الجوع بالإنسان لمراحل صعبة من حياته، فيقرر تغيير فكره، كأن يصبح مثلا شيوعيا، ويخالف مبادئ الدولة، كل ذلك من أجل قطعة خبز ترمى له.
ونختم بقولة أوريل الشهيرة، والتي لخصت جانبا من هذا الخراب الهائل:
” لم يكن البقاء على قيد الحياة هدفا للمرء، بل البقاء إنسانا”.
الحسين.