د.حسن بوعجب| المغرب
لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية فيها، ولعل من أهم هذه القيم التي احتفل بها الشعر العربي قديمه وحديثه، قيم التسامح والتعايش، وهو الاحتفال الذي لا يكون دائما بشكل مباشر، إذ إنه يمكن اعتبار رصد الشعراء لأضداد هذه القيم، من تمييز وإقصاء وعنصرية وصراع، بمثابة صرخة تألم واحتجاج تبين لنا مأساوية الصراع وتنمي الوعي في نفوسنا بحاجتنا إلى قيم التعايش وقيم السلم وقيم التسامح.
بخصوص تعريف المفهومين : “التعايش” و”التسامح” فإننا لن نتيه كثيرا في تعقب معانيهما اللغوية، بل سنقتصر على ما له علاقة بينة بالمعنى الذي نريده الان، وهو القبول بالآخر وتجاوز منطق مقابلة الاختلاف بالإقصاء والنبذ .
وبالعودة إلى بعض المعاجم العربية نجد أن مفهوم التعايش لا ينحصر في معنى دقيق ومحدد ، فقد جاء على سبيل المثال في معجم لسان العرب لابن منظور : ” العيش الحياة ، وعايشه أي عاش معه ، والعيشة ضرب من العيش ، يقال : عاش عيشة صدق وعيشة سوء “[1]
وفي المعجم الوسيط «تعايشوا : عاشوا على الألفة والمودة . ومنه التعايش السلمي. والعيش معناه الحياة، وما تكون به الحياة من المطعم والمشرب والدخل “[2]
إجمالا فالمعنى الاصطلاحي لمفهوم التعايش، انطلاق من بعض دلالاته المعجمية المرتبطة بالعيش المشترك، وانطلاقا من سياق استعماله في أدبيات الخطاب الثقافي والإعلامي المعاصر يقصد به بشكل عام العيش مع الاخر واحترامه و تقبله كما هو من حيث اللون أوالدين أو العرق أو المذهب السياسي … إلى غير ذلك من الاعتبارات، إنه إذن العيش مع الاخر وليس العيش مكانه بعد إبعاده أو إقصائه.
أما مفهوم التسامح الذي كثيرا ما يستعمل بجوار مفهوم التعايش في أدبيات الخطاب العربي المعاصر، بل يستعمل أحيانا بدله، فإنه لا يبتعد عنه في معانيه الدالة على اللين و سهولة المعشر، فهو لغة مشتق من السماح والسماحة، أي الجود . مصدر سمح يسمح سماحة وسماحا وسموحة، وتدل مادة (س م ح ) حسب ابن فارس على معنى السلاسة والسهولة ، “يقال : سمح ( بفتح السين ) وتسمح وسامح ، فعل شيئا فسهل فيه”[3]
وتعرف منظمة اليونسكو التسامح بأنه ” الاحترام والقبول والاعتراف بالتنوع الثري بين ثقافات العالم، واحترام الأشكال المتباينة في التعبير، وتقدير الصفات الإنسانية لدينا، ويتعزز التسامح بالمعرفة والانفتاح والتواصل وحرية الفكر والضمير والمعتقد، فالتسامح هو الانسجام في سياق التباين، وهو ليس واجبا أخلاقيا فقط، وإنما هو أيضا _ التزام سياسي وقانوني، وفضيلة تسهم في إحلال ثقافة السلم محل ثقافة الحرب “[4]
وهكذا يظهر لنا جليا أن مفهوم التسامح يتعالق تعالقا وثيقا بمفهوم التعايش، حيث يدل عموما على احترام الاختلاف وتقبل الاخر، بل يدل أكثر من ذلك في تقديرنا على تجاوز منطق مقابلة الإساءة بالإساءة ومنطق مقابلة الإقصاء بالإقصاء، فإذا كان التعايش واجبا تقتضيه ضرورات العيش المشترك فإن التسامح كرم من المتسامح تجاه ذلك الاخر الذي لا يكون بالضرورة متصفا بصفات التعايش.
وقبل أن نمر إلى رصد حضور القيمتين ” التعايش ” و” التسامح ” لا بد من الإشارة إلى بعض أنواع التعايش، ولقد ركزنا على هذا الأخير باعتباره ضرورة إنسانية تقتضيه ضرورات وحتميات العيش المشترك.
إن التعايش أنواع عديدة، منها: التعايش الطبقي ، والتعايش العرقي ، والتعايش الديني ، والتعايش السياسي ، والتعايش الحضاري … وسنحاول الوقوف على بعض أنواع التعايش هذه في الشعر العربي عبر الوقوف عند نماذج شعرية من الشعر العرببي القديم ومن الشعر العربي الحديث ، ففي الشعر القديم سنقف عند صرخة عروة بن الورد في وجه التمييز الطبقي وقراره التمرد على الوضع عوض التعايش معه ، كما سنقف في المقابل عند شعر شاعر فارس رغم كل الظلم الذي تعرض له لم يتصعلك ولم يتمرد بل تعايش مع أزمة التمييز العنصري وواجها بالحكمة والصبر والإنشاد، إنه الشاعر عنثرة بن شداد العباسي الذي يشكل أيقونة لقيمتي التسامح والتعايش في الشعر العربي القديم ، هذا بالإضافة إلى شاعر الحكمة والتأملات العميقة ، الشاعر زهير بن أبي سلمى الذي يسجل له التاريخ الشعري نماذج راقية في امتداح خصال السماحة والتعايش. أما في الشعر الحديث فسنقف عند بعض أشعار معروف الروصافي باعتباره من شعراء الإحياء، و إليا أبو ماضي باعتباره من شعراء الرومانسية ، و نازك الملائكة باعتبارها من رواد حركة الشعر الحر .
والأسئلة العامة التي سنحاول الإجابة عنها في هذا المقال هي كالتالي : كيف حضرت قيم التسامح والتعايش في أشعار هؤلاء الشعراء ؟ وكيف تصمد هذه القيم في وجه القيم النقيضة لها ( التحارب _ التمييز العنصري …) ؟ وكيف يمكن للشاعر العربي أن يبقى داعيا إلى التعايش والتسامح في وقت يقتل فيه بشكل يومي أبناء جلدته ؟
1-قيم ” التسامح والتعايش ” في الشعر العربي القديم
لقد عرف المجمتع العربي فيي العصر الجاهلي الكثير من الصراعات والعصبيات والمناوشات القبلية ، وكانت أحيانا تنشب الحروب بين القبائل وتستمر سنينا طويلة لأسباب تافهة ، ذلك أن العربي بطبعه صعب المراس وحاد الطبع ، فمثلما كان الشجر شوكيا في تلك الصحراء الحارة الأجواء ، كان كذلك البشر حار المشاعر انفعالي الطباع ، لنجده بنفس أبية لا تقبل الخضوع ولا تقبل الاستصغار والاحتقار .ويضاف إلى هذه النفس المتقدة صعوبة العيش في البيئة الصحراوية ، حيث ساد التنافس والصراع على المجال ، خصوصا الصراع على مناطق الماء والكلأ ، حتى صار إبعاد الاخر ونفيه سبيلا لضمان البقاء في بعض الأحيان.
والشاعر باعتباره لسان القبيلة كان يجند من أجل الدفاع عنها بكلماته ، فيكرس أغلب شعره لنصرتها، بتعداد مفاخرها و بهجاء أعدائها ذلك الهجاء الذي لا يترك في كثير من الأحيان فرصة للمهادنة أو فرصة للمصالحة ، حيث يرد الشاعر الصاع صاعين ويقابل الجهالة بالجهالة الجهلاء ، ولعل هذا ما نجده على وجه التحديد عند الشاعر عمرو بن كلثوم إذ قال بيته المشهور :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا .
وإلى جانب صراع القبلية مع القبائل الأخرى، كان يحدث الصراع داخل نفس القبيلة، حيث كان النظام الاجتماعي فيها قاسيا يبقي السادة سادة والعبيد عبيدا والفقراء فقراء ، مما أدى إلى تمرد بعض الشعراء على هذا النظام واختيارهم لحياة التصعلك ، فأطلق الشعراء هؤلاء الصعاليك صرختهم في وجه الظلم والتفقير ، بل أكثر من ذلك واجهوا النظام القبلي بالقتال و الإغارة ، إذ فضلوا حياة الفيافي وحياة الكر والفر وهم يواجهون بشكل مستمر الأعداء الأغنياء .
يقول الشاعر الصعلوك عروة بن الورد محتجا على التمييز الطبقي :
” دعيني للغنى أسعى فإني رأيت الناس شرهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليه وإن أمسى له حسب وخير
ويقصيه الندى وتزدريه حليلته وينهره الصغير
ويلقى ذو الغنى وله جلال يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه، والذنب جم ولكن للغنى رب غفور [5]“
إن الشاعر هنا يستنكر الفقر، باعتباره سببا للمهانة والإذلال في مجتمع تطغى فيه سلطة المال، حيث يحتقر الفقير ويضاعف له العقاب ويطبق عليه القانون، بينما الغني يشفع له أنه ذو مال وأنه ذو جاه.
وهكذا يمكن القول أن قيم التعايش الطبقي وقيم التعايش مع الاخر كانت تتوارى في مجتمع بدوي تسوده العصبيات، وتحكمه العادات والتقاليد ، فباسم هذه العادات كانت حتى الأنثى تنال نصيبها القاسي من الميز والإقصاء ، بل وأن من العرب من وأد البنات باعتبارهن رمزا للعار وتهديدا للشرف .
لكن بالموازاة مع هذه الطباع الجاهلية كان يقبع داخل صلابة الإنسان العربي ذلك الطفل الرقيق المشاعر المرهف الإحساس، وهذا ما جعل الشعراء يولون عناية خاصة لقيم الكرم و السماحة والحلم، خصوصا في أشعار المدح، مثلما نقف على ذلك في هذه الصورة المثالية التي يرسمها الشاعر زهير بن أبي سلمى للممدوح :
” وذي نعمة تممتها وشكرتها … وخصم يكاد يغلب الحق باطله
دفعت بمعروف من القول صائب … إذا ما أضل الناطقين مفاصله
وذي خطل في القول يحسب أنه .. . مصيب فما يلمم به فهو قائله
عبأت له حلماً وأكرمت غيره . .. وأعرضت عنه وهو باد مقاتله”[6]
يتضح هنا بجلاء كيف أن الشاعر زهير بن أبي سلمى يمدح ممدوحه بصفات السماحة الفريدة ، فهو رغم جهالة مخاطبه لم يرد على جهالته بالجهالة و لا بالإفحام ، وإنما واجه غيه بالحلم رغم قدرته على هزمه شر هزيمة .وهذا تماما يناقض قول عمرو بن كلثوم :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا .
هذا هو إذن التسامح المثالي الذين يكون فيه الفرد ممتلكا لأدوات المواجهة ، بل وممتلكا لسلاح الغلبة المضمونة ، لكن مع ذلك يجنح نحو السلم والصفح والمعاملة الحسنة .
كما يحتفل الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى بتحقق السلام وتحقق التسامح، بعد طول صراع ، إذ امتدح التصالح الذي وقع بين قبيلة عبس وذبيان بعد حرب طويلة لم تجلب لهم سواء الفناء والخراب . فيقول :
“تداركتما عبسا وذبيان بعدما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم
وقد قلتما إن ندرك السلم واسعا بمال ومعروف من الأمر نسلم
وقال سأقضي حاجتي ثم أتقي عدوي بألف من ورائي ملجم
فشد ولم يفزع بيوتا كثيرة لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم “[7]
ونقف كذلك في الشعر العربي الجاهلي على نموذج راق للتسامح والتعايش ، ألا وهو نموذج الشاعر الفارس عنثرة بن شداد العباسي ، حيث رغم استعباد واحتقار قبيلته له، لم يقابل الإساءة بالإساءة والشر بالشر ، ولسنا ندري هل كان ذلك راجعا إلى حبه الشديد لعبلة أم راجعا لقوة شخصيته ، ولكن في كل الأحوال يظل منطوق أغلب شعره مفعما بالإنسانية والسماحة التي لا حدود لها .
“أعادي صرف دهر لا يعادى وأحتمل القطيعة والبعادا
وأظهر نصح قوم ضيعوني وإن خانت قلوبهم الودادا
أعلل بالمنى قلبا عليلا وبالصبر الجميل وان تمادى
تعيرني العدى بسواد جلدي وبيض خصائلي تمحو السوادا”[8]
إن عنثرة إذ ينبذ ويحتقر من طرف قبيلته لا يبادر إلى مبادلتها الإساءة والجفاء ، بل يتفانى في الإحسان إليها و الدفاع عنها في أحلك الأوقات ، غير مهتم بما يصدر عنها من ميز واحتقار ، فهي دائما تهينه وتعيره بسواد بشرته ، لكن مع ذلك يحرص أن تكون له أبيض الفعال وأبيض الخصال في تعامله معها ، في وقت الرخاء كما في وقت الشدة.
“إن الفروسية والفحولة الشعرية قد تنفعان في نسخ العبودية وإزالتها في مجتمع يقدر الشعراء الفرسان، ويحتفل بولادتهم، إلا أنهما لن ينفعا في نسخ سواد الأبدان والوجوه، فالعبودية وضع اجتماعي يمكن الخلاص منه وتغييره، في حين أن السواد خصلة طبيعية ليس بالإمكان الخلاص منها أو تغييرها[9]“، فهي كما يقول عنثرة نفسه، بمثابة المرض الذي ليس له دواء:
لئن أك أسودا فالمسك لوني وما لسواد جلدي من دواء
لهذا فعنثرة عندما تقبل هذه الحقيقة المرة ، صار يمجد السواد ويحتفل به في شعره ، باعتباره عنصرا حيويا لموجودات ثمينة كالمسك ، أو باعتباره ليلا يعطي قيمة للضوء والفجر ، إذ يقول بهذا الصدد :
يعيبون لوني بالسواد جهالة ولولا سواد الليل ما طلع الفجر .
إجمالا يمكن القول أن عنثرة بن شداد اجتمعت في قصائده القيم السلبية من تمييز وتنمر وإقصاء ، كما اجتمعت فيها أيضا قيم التسامح والتعايش ، وكأنها لوحة فنية يصارع فيها الخير الشر ، فتكون الغلبة في الأخير لقيم الخير التي يمثلها عنثرة ، ذلك أنه عندما جاء وقت الشدة ووقت الحرب أظهر عنثرة فروسيته وبطولته ، بينما ولى الأدبار من كانوا يدعون علو المكانة وسمو الشأن.
وبشكل عام لا يمكن القول أن كل الشعر العربي القديم يحتفل بقيم التعايش والتسامح، لكن نعثر فيه بين الفينة والأخرى على نماذج شعرية تحتفل بهذه القيم، وهو الاحتفال الذي يكون إما بتمجيد صفات السماحة و إما بنبذ سلوكيات الإقصاء والتمييز العنصري .
2- قيم التسامح والتعايش في الشعر العربي الحديث .
تحسس الشاعر العربي الحديث مرارة الصراع الإنساني، لما يجره على الأوطان من خراب ودمار، ولما يجره على راحة الإنسان من قلق واضطراب وخوف، فالحاجة إلى السلام في وقت تسود فيه الحروب وتغيب فيه الطمأنينة ملحة جدا.لهذا عبر كثير من الشعراء العرب في العصر الحديث عن هذه الحاجة إلى تأسيس صداقة إنسانية، تتجاوز الاختلافات الطبقية والعرقية والمذهبية والحضارية.
فهذا شاعر الإحياء معروف الروصافي يقول داعيا إلى التعايش بين الأديان في وطنه :
” أما آن أن تنسى من القوم أضغان فيبنى على أس المؤاخاة بنيان؟
أما آن أن يرمى التخاذل جانبا فتكسب عزا بالتناصر أوطان؟
علام التعادي لاختلاف ديانة وإن التعادي في الديانة عدوان
وما ضر لو كان التعاون ديننا فتعمر بلدان وتأمن قطان “[10]
الشاعر معروف الروصافي يستعجل هنا في هذه الأبيات ضرورة ترك العداوة بسب الدين ، ويجعل من التعاون دينا يدين به الجميع من أجل البناء القوي للوطن.
وهذا شاعر الرومانسية إليا أبو ماضي يدعو هو الاخر إلى الأخوة الإنسانية ويستنكر تنكر الإنسان لأخيه الإنسان، رغم أنهما ينحدران من أصل واحد وهو الطين، فينشد في قصيدته الطين قائلا:
” نسي الطين ساعة أنه طين حقير فصال تيها وعربد
وكسى الخز جسمه فتباهى وحوى المال كيسه فتمرد
يا أخي لا تمل بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
أنت لم تصنع الحرير الذي تلبس واللؤلؤ الذي تتقلد
أنت لا تأكل النضار إذا جعت ولا تشرب الجمان المنضد
أنت في البردة الموشاة مثلي في كسائي الرديم تشقى وتسعد
لك في عالم النهار أمان ورؤى والظلام فوقك ممتد
ولقلبي كما لقلبك أحلام حسان فإنه غير جلمد “[11]
يؤكد الشاعر في هذه الأبيات على أن المساواة بين الناس هي الأصل الطبيعي في الوجود، أما التكبر واحتقار الاخر فليس ناتجا إلا عن الغرور والفهم الخاطئ لامتلاك الثروة أو النفوذ، لذلك يلوم أخاه المتكبر ويذكره بأن كل ما يملك لا يملكه في الأصل، فهو منة ربانية وليس من خلقه ليفتخر به، كما يذكره بأن كلاهما في الأخير سيان أمام أقدار السعادة والشقاء، وسيان في تواجدهما تحت سماء واحدة تعلو فوق الجميع.
وإذا وصلنا أخيرا إلى الشعر الحر في العصر الحديث ، فإننا نقف أيضا في إطار الدعوة إلى الصداقة الإنسانية ونبذ الغرور على قصيدة ” لنكن أصدقاء ” للشاعرة العراقية نازك الملائكة ، التي تدعو فيها إلى صداقة إنسانية عابرة للأمكنة والثقافات والطبقات المختلفة ، ولعل ما يميز هذه القصيدة هو تلخيصها لأنواع عديدة من التعايش .
تقول نازك الملائكة في قصيدتها لنكن أصدقاء :
لنكن أصدقاء
ألأكفّ التي عرفت كيف تجبي الدماء
وتحزّ رقاب الخلّيين والأبرياء
ستحسّ اختلاج الشعور
كلّما لامست إصبعا أو يدا
والعيون التي طالما حدّقت في غرور
ترمق الموكب الأسودا
موكب الرازحين العبيد
هذه الأعين الفارغات
ستحسّ الحياة
ويعود الجمود البليد
خلفها ألف عرق جديد
والقلوب التي سمعت في انتعاش
صرخات الجياع العطاش
ستذوب لتسقي صدى الظامئين
كأسة ولتكن ملئت بالأنين
في هذا المقطع الشعري ترصد الشاعرة نازك الملائكة الواقع المؤلم الكائن وتستشرف بعد ذلك الواقع الجميل الممكن، حيث أن الناس التي اعتادت أن تكون سعادتها على حساب الأخرين والتي تتصرف بتلك السادية المرضية، ستحس مستقبلا بألم الاخر، إنها تستنكر عموما أن يستمد الإنسان بشكل مرضي نشوته وانتعاشه من التكبر على الاخرين ومن تألمهم وعذابهم .
وتسترسل الشاعرة في هذه الدعوة الإنسانية داعية إلى التعايش مع جميع أصناف البشر ، فتقول :
” لنكن أصدقاء
نحن والحائرون
نحن والعزّل المتعبون
والذين يقال لهم “مجرمون“
نحن والأشقياء
نحن والثملون بخمر الرخاء
والذين ينامون في القفر تحت السماء
نحن والتائهون بلا مأوى
نحن والصارخون بلا جدوى
نحن والأسرى
نحن والأمم الأخرى
في بحار الثلوج
في بلاد الزنوّج
في الصحارى وفي كلّ أرض تضمّ البشر
كلّ أرض أصاخت لآلامنا
كلّ أرض تلقّت توابيت أحلامنا
ووعت صرخات الضجر
من ضحايا القدر”[12]
كاظم نجم عبد الله ، الاخر في الشعر العربي الحديث : تمثل وتوظيف وتأثر ، المؤسسة العربية للدرسات والنشر ، 2010 ، ص : 241 الجميل جدا في هذا المقطع أن الشاعرة إلى التعايش حتى مع المجرمين ، فالإنسان يمكن أن يدان لكن لا يمكن أن يحتقر ويهان ، كما أن الجميل في هذه الأسطر الشعرية الدعوة إلى التعايش الطبقي بين الفقراء وبين الأغنياء ، فكم من غني قد يكرهه الناس بمجرد أنه غني ، معتقدين أنه سارق أو مختلس أو متاجر في الممنوعات ، وكم من فقير يتجنب بعض الناس صداقته خوفا من التورط في مشاكله ، أو خوفا على سمعتهم ومكانتهم التي لا يشرفها مصادقة الفقراء والبسطاء ، كما تدعو الشاعرة في الأخير إلى صداقة إنسانية عابرة للأمكنة والقارات ، حيث لا فرق عندها بين أوروبا أو افريقيا أو أي بقعة جغرافية أخرى في العالم ، فحيثما يوجد الإنسان تدعونا إلى صداقته والتعايش معه .
إجمالا، فالشاعر العربي الحديث بما تحسسه من خيبات و بما تحسسه من ألم جراء الصراع الإنساني ، غالبا ما نجده في شعره حالما بعالم أفضل يسود فيه الإخاء والتعايش ، لكن التحدي الأكبر الذي يواجهه وهو يحلم بهذا العالم هو مدى قدرته على الصبر داعيا إلى التعايش والتسامح ،في الوقت الذي يرى أبناء جلدته يقتلون أطفالا ونساءا وشيوخا ، إننا نتحدث هنا عن شعر المقاومة والنضال الذي يشهره الشاعر بعدما يجد أن أغاني قصفة الزيتون لا تجدي ، لنقر في الأخير بمشروعية شعر المقاومة بعد استنفاذ كل أشعار التسامح .
يقول محمود درويش في قصيدته ” سجل أنا عربي ” :
سجل … برأس الصفحة الأولى
أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على أحد
ولكنني … إذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذار … حذار … من جوعي
! ! ومن غضبي
المصادر والمراجع :
ملحوظة : أصل المقال مداخلة قدمتها في الملتقى الأول ” للشعر والتربية ” بمدينة أسا _ إقليم أسا الزاك ، والمنظم من طرف نادي الفكر والإبداع بثانوية عقبة بن نافع التأهيلية بتعاون مع النيابة الإقليمية وجمعية الوحدة والتنوع ، بتاريخ 03 و 04 أبريل 2013
1- ابن منظور ، لسان العرب ، دار صادر ، ط 3
2- المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، دار الفكر ، القاهرة ، ط 2 .
3- معجم مقاييس اللغة ،ابن فارس ، دار الفكر ، بيروت 1979، ط 3 .
‘4- ديوان عروة بن الورد ،أسماء أبو بكر محمد دراسة وشرح وتحقيق ، دار الكتب العلمية ، بيروت
5- ديوان زهير بن أبي سلمي ، شرح وتقديم ، علي حسن فاعور ، دار الكتب العليمية ، بيروت 2003 .
6- المعلقات العشر ، قميحة مفيد ، دار الفكر اللبناني، بيروت.
7- ديوان عنثرة بن شداد بن معاوية بن قراد العبسي ، المطبعة الأدبية ، بيروت 1981 .
8- د.نادر كاظم ، تمثيلات الاخر : صورة السود في المتخيل العربي الوسيط ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ط 1 ، 2004 .
9- ديوان معروف الرصافي، تقديم مصطفى الغيلاني ، إيناس عبد الهادي الربيعي ، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2021 .
10- إليا أبو ماضي شاعر السؤال والجمال ، سلسلة أغلام الأدباء والشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت 1993.
11- كاظم نجم عبد الله ، الآخر في الشعر العربي الحديث : تمثل وتوظيف وتأثر ، المؤسسة العربية للدرسات والنشر ، 2010 .
12-‘إعلان اليونسكو ،المؤتمر العام في دورته الثامنة والعشرين ، باريس ، نونبر 1995
[1] ابن منظور ، لسان العرب ، دار صادر ، ط 3 ، ص : 321
[2] المعجم الوسيط ، مجمع اللغة العربية بالقاهرة ، دار الفكر ، القاهرة ، ط 2 ، ص :639-940 .
[3] معجم مقاييس اللغة ،ابن فارس ، دار الفكر ، بيروت 1979، ط 3 ، ص : 99
[4] ‘إعلان اليونسكو ،المؤتمر العام في دورته الثامنة والعشرين ، باريس ، نونبر 1995
[5] ديوان عروة بن الورد ،أسماء أبو بكر محمد دراسة وشرح وتحقيق ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، ص : 59
[6] ديوان زهير بن أبي سلمي ، شرح وتقديم ، علي حسن فاعور ، دار الكتب العليمية ، بيروت 2003 ، ص : 7
[7] المعلقات العشر ، قميحة مفيد ، دار الفكر اللبناني، بيروت ، ص : 122
[8] ديوان عنثرة بن شداد بن معاوية بن قراد العبسي ، المطبعة الأدبية ، بيروت 1981 ، ص : 26
[9] د.نادر كاظم ، تمثيلات الاخر : صورة السود في المتخيل العربي الوسيط ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ط 1 ، 2004 ، ص : 505
[10] ديوان معروف الرصافي، تقديم مصطفى الغيلاني ، إيناس عبد الهادي الربيعي ، دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت 2021 ، ص : 117
[11] إليا أبو ماضي شاعر السؤال والجمال ، سلسلة أغلام الأدباء والشعراء، دار الكتب العلمية، بيروت 1993، ص : 127
[12] كاظم نجم عبد الله ، الآخر في الشعر العربي الحديث : تمثل وتوظيف وتأثر ، المؤسسة العربية للدرسات والنشر ، 2010 ، ص : 241