هدى توفيق|مصر
صدرت المجموعة القصصية مسلة الأحزان السومرية للكاتب العراقي علي السباعي الطبعة الأولى عام 2018 عن دارنشر الدراويش للنشر والترجمة ـ جمهورية بلغاريا بلوفديف نلاحظ في تلك المجموعة أنه تتوحد قصصها في محاور محددة إلى حد كبير من حيث الطول وأيقونة التماهي والتوصيف ذو الدلالات المتعددة والتفاصيل السردية المفعمة باللغة المجازية والفنية التي تطول وتقصر حسب ضرورات السرد القصصي في جميع القصص تقريبا كما نوهت من قبل ماعدا قصة واحدة سيجارة الضابط العراقي ورغم تمركز بؤرة الحدث في شئ محدد وشخصية واحدة تتبعها شخصيات ثانوية ويدور حولها لغة الأساطيروالفن بكل مجالاته لتفرز لنا القصة ذات الثقافة المتنوعة من الشعر والغناء والموسيقى فتشعر وكأنك فيملحمة قرائية لمختلف الفنون رغم بساطة الحدث أو ربما هو لا شئ بالغ الأهمية لحدث ما يمر أمامنا عابرا من اعتياد حدوثه فهذا نتاج الفن أن تصنع من التفاصيل الاهية بعثا فنيا وعطاءا ابداعيا يجعلك مستمتع باستكمال الحكاية والسرد بشغف الذي استطاع به أن يخلق أجواء التفرد ببلاغة لفظية أو بحيل فنية ممعنة في تلقي القص واستنهاض الروح المبدعة بمقولةالقوة الناعمة التي تسير بك حيث لا تدري غير متعة القراءة ومتعة الحكي أعتقد أن هذه من أبرع وظائف الفن القصصي قدرة كمال الحكايات في صفحات محدودة بين أوصاف مفعمة وجزالة الجمل السردية الطويلة المليئة بالتحليل الفني بهيأة فنية خالصة لتخبرنا عن الحدث الكبير أو الصغير كل سواء ما دامت الحياكة في نسيج لدن ومرن بدربة اليد الماهرة التي تجيد خطواته فحوى أغلب قصص المجموعة قاتمة ومؤسفة وهي ترصد حالات الموت المريعة وهذا نتاج طبيعي لما حدث في العراق من ويلات الحرب ولا زالت أثاره ومظاهره متجلية في أنحائه تنخر فيه بألأحزان والمرارة والجروح الثاقبة التي لن تزول بالطبع بسهولة مهما مرت السنون فكان الإهداء موحيا بذاك الرثاء والتحسرواجترارالأحزان على حضارة بلاد الرافدين العظيمة في ظل واقع صار مزريا وسط المعاناة اليومية حتى في أبسط حقوق المواطن العراقي فيقولها الكاتب بلفظة قوية موجعة للغاية صدمتني ووصلني وجعها الذي قصد توصيله إلينا “إلى بلد ميت ” حيث ” كتب على هذه الأرض أن لا يقال فيها سوى المراثي والمناحات ” شاعر سومري يرادف اختيار الكاتب لعنوان المجموعة الأحزان السومرية ليوضح مدى فخره بالبعد الحضاري الذي يمتد لألاف السنين كما تتلوه علينا أثار هذه الشواهدالتاريخية السومرية وغيرها من الدلائل الدينية والتاريخية والحضارية المتخم بها العراق “كشواهد عيان” القصة الأولى “شارل شابلن يموت وحده” بطل القصة مصلح أجهزة كهربائية دقيقة في مدينة أور وهي معروفة تاريخيا وهذا البطل السومرى رغم وجهه الأسمر الجنوبي لكنه يحمل به ابتسامة شارل شابلن ويسير بخطوات مثله أيضا وقد أمن برأيه ” يوم من دون سخرية هو يوم ضائع ” حتى صار نعته بين أبناء مدينته شارلي شابلن ويسترسل الكاتب في وصف بطل الرواية وهذا الانزياح الوصفي بتحليل رؤى فنيةللكاتب هوتيمة أغلب القصص المعتاد في ذاك العمل القصصي حتى يدخل عليه يحيى المنغولي ويسترسل الكاتب أيضا في وصف يحيى النقي الذي يمسك بيده ستلايت قديما جدا مع جهاز التحكم عن بعد عاطل هذه اللفظة التي حولها الكاتب بقصدية لفعل مطلق دون تحديد أيحيى هو العاطل عن العمل أم جهاز الستلايت ؟ حتى يخبرنا أن جهاز التحكم عن بعد هو من كان عاطلا وفجأة بعد خروجه بلحظات تتحول أرض مدينة أور إلى أرض مغرقة بالدماء من انفجار شديد ويتواصل الوصف السردي وهو يرصد كل المشهد القصصي بدقة وحنكة ما هو أقرب إلى المشهدية السينمائية التي أصبح بها الكاتب كمصور فني يصور مشهدا سينمائيا بكادر لغوي ووصف دقيق لا يفوته لافتة أو علامة أو اشارة تخدم المشهد ليكتمل تخيله ورؤيته واضحة أمام القارئ وبعد أن ينتهي التفجير كالعادة بعد الانفجاريتجمع الناس لانقاذ الجرحى والبحث عن الإرهابي ليسددوا له ضربات مميتة ” ظننته لأول وهلة إرهابيا ثانيا يحاول تفجير نفسه ، فعادة ما يعمد الإرهابيون إلى تفجير مزدوج بعد أن ينتهي التفجير الأول حينما يتجمع الناس لانقاذ الجرحى يفجر إرهابي ثان نفسه ” لكننا في نهاية القصة المروعة نكتشف أنهم قتلوا يحيى النقي ظلما وافتراءا في بحثهم عن الإرهابي اللعين يحيى البرئ النقي السريرة من كل جرم أو فحش إرهابي ،الذي لم يكن حلمه من كل هذه الحياة غير إصلاح جهاز التحكم عن بعد في قصة” رحلة الشاطر كلكامش إلى دار السلام ” يستحضر الكاتب البطل الأسطوري كلكامش المعروف في ملحمة كلكامش وأنكيدو في حضارة بلاد الرافدين لتدور القصة بين هذا التناص وبطل الواقع الحقيقي الذي تلبس هيئته وروحه المثابرة قائلا على لسان حاله ” أنا الشاطر كلكامش ، كانت غلطتي بألف حاولت أن أحيط نفسي بالمجدمثل ايرو سترات إذ دمر إحدى عجائب الدنيا السبع بإحراقه معبد دلفى في اثينا كي يخلد اسمه ” ويحكي كلكامش حكايته في مدينة بغداد ويسهب باسلوب وصفي كتعبيركمي ونوعي وفني ليشكل حدوتة متكاملة بمجازاستخدام فيهاسم البطل الأسطوري كلكامش المغرم بشراء الكتب وقراءتها بالطبع حيث جاء في كتاب (بغداد في مدينة السلام ) لابن الفقيه الهمداني أن المفكر والفيلسوف أحمد بن الطيب السرخسأحد تلامذة الكندي ذكرله بغداد ” أنها مدينة العلم ، شريفة المكان و…. ” وحديقة الملك غازي سابقا وحاليا حديقة الأمة بعد ثورة الرابع عشرمن تموز عام 1958ونصب الحرية في ساحة التحرير وهو يتذكر ذكرياته وهو طالب في معهد الفنون الجميلة ورحلته في دارالسلامو(معالم مدينة الأمة ونافورة البط وتمثال الأم ) في بغداد الحبيبة ، حتى تأتي الحرب اللعنة في 2003ويتبدل كل شئ في وجوه الحياة والشاطر كلكامش يعيش كالنعامة التي تدفس رأسها الصغير في الرمال فتظن أنها بمنأى من الخطر حتى يكتسف أنه مغفل كبير وهو يشاهد سيارة همفي فوقها جندي أمريكي يصوب فوهة قناصته إلى صدره فوق القلب حتى يصل بنا إلى “مرأب النهضة ” بيده كنزه الثمين كتبه ” بكيس أصفر كبير ” ويتذكر زليخة والحرب والأحزان في الناصرية هذا الكلكامشي ذو الملامح السومرية يحكي لنا عن بيتهوفن الذي رفض أن يرفع قبعته للأمبراطور في النمسا مثل كل الأخرين لأنه بيتهوفن واحد لا مثيل له ويجود القص بالعديد من التناص بين جوقة الفنانين العظام كجواد سليم ،فائق حسن ،خالد الرحال ،محمد مهدي الجوهري بدر شاكر سياب محمود بريكان مهند الحيدري غائب طعمه فرمان محمود جنداري مهدي عيسى الصقر وخليل القيسي في صورة الفنان الحقيقي؟ وقفت وجدارية فائق حسن تنطلق منها طيور الحرية إلى الخلف حيث تمثال الأم إلى الوراء تعانق نصب الحرية مواجهين للحياة لاتجاه شروق الشمس بعد شروقها لكن العبوة الناسفة تدمر كل شئ ومن سخرية الأقدار أن تلك العبوة الناسفة كانت في المقعد الخلفي للسائق عند كنز (الكتب) بالكبيس الأصفر البلاستيك الكبير وقد بات كلكامش إرهابي في نظر الجميع وينهي الكاتب القصة بجملة بليغة المغزى والوصف هذه المنهجية التي إعتمد عليها في أغلب القص ” بعد أن أكتشفت بأنني الخاسر الوحيد في كل الذي قد جرى لأنني لم ألتزم بحكمة أبناء قريتي : أن الطائر الذي يلوذ بعشه لا خطر عليه من الصياد ” يتواصل الخطاب السيميائي بين مظاهر أثار الحرب وجماليات التشظي والاغتراب وقسوة الحياة من تداعيات الحرب المهلكة والمقيتة وهي تفتك بالأرواح والأجساد بمطرقة قاسية ويتجلى هذا الفحش والدمار في قصة إعلان وفاة ليلى الأرملة كرمز فاضح ومميت لأهل العراق حيث ولدت ليلي حسب تعداد بغداد 12/ 10/1957في الأول من تموز وقد باتت ليلي رمز التمدد السرطاني لفوبيا الحرب والخراب والحطام الكامل في العراق العظيم الذي ترمل واستباح طهره ودمه وسكنه القهروالحزن ” تنهدت ليلى وعيناها الأشوريتان حزينتان تشعان بنظرة حزن ساخر يشتد لمعانهما على وجهها وهي تقول لي بنظرات صافية متلألئة : فقدان زوجي أصبح ذكرى منسية ” ويتواصل التففت الروحي والبدني وسرمدية الحزن ترسم جدارية كابوسية للموت والفقد والبتر والانسلاخ من جوف الحياة النابض تماما بسبب إصابة ابنها الصغير بمرض نفسي بعد انفجار سيارة مفخخة في مكان قريب جدا منه في بغداد أثناء توجهه إلى عمله حيث قتل وأصيب العشرات من الأبرياء أه ياليلى المقهورة ليلى ذات الوجه الموصلي المشع التي توفيت ابنتها البالغة بسكتة قلبية مفاجئة بعد أن خطبها داعشي صيني حتى عندما حاول ابنها الكبير مواصلة الحياة والفكاك من أنياب الإرهاب والموت بفتح محل لألعاب الفيديو ” الأتاري ” وتزوج وأنجب لها حفيد لكن على غرة جاءها هاتف الموت ” أن الإرهابين كانوا قد هددوا ابني بالقتل في حال امتناعه عن دفع الأتاوي لهم ” فوضعوا له عبوة ناسفة فجروها بمجرد حضورها وهي تحمل حفيدها ذي الثلاث سنوات مع تلاثة نسوة يصاحبنها ومات الابن البكري ومات الحفيد الذي كانت تحمله بين ذراعيهاوبقيت ليلى بين يدي سارد القصة الجراح المشرف على حالتها الطبية التي استدعى الطبابة العسكرية نقلها من الموصل إلى مستشفى بغداد لبتر ساقيها وساعديها بعد استحالة علاجهم غير بمشرط هذا الجراح أما النسوة الثلاث أصبن بجراح متباينة والجميع يعلن بمأساة ألا تعلمون ياجيران العراق العظيم حقيقة الوهم الكبير التي دونت ذات وطن الشاعرة الموصلية منال الشيخ عبارة استوقفتني مانصه ” طوال عمرنا نرى خارطة العراق موحدة على الورق فقط ولكن لا صلة روحية بين الشمال والجنوب مهما ادعينا ذلك ” ألا تعلمون ياأهل العراق ياحضارة بلاد الرافدين أن ليلي ببغداد تبتر ساقيها وساعديها ألا تدركون أن ليلى الموصلية بالعراق تنزف وتعاني وتنسحق وتبتر بنيران الإرهاب والوحدة المزيفة ألا تعلمون ألا تدركون ألا تتبصرون تلك الحقيقة المفجعة وتستمر تلك الملحمة النابضة بواقع الحرب والمأساة في قصص “حقيبة الإرهابي ذي البدلة الأنيقة “وقصة “وحدها يد شهرزاد باسقة” وقصة “بيتهوفن يبيع اسطوانات الغاز” و”كلكامش يغني لسليمة مراد “وسيجارة الضابط العراقي وإن كنت من وجهة نظري المتواضعة أرى أن قصة “كاكا .. عبد الحليم حافظ “وقصة “حوار في مرآة الذات ” خرجا عن المنوال القصصي الذي أخذ توجه محدد إلى حد ما من بداية القص رغم تنوع وتعدد رؤى الحربوالخراب لكن المصب الأساسي كان موغلا في فرز تجليات الحرب الجسام على واقع العراق فلما كانت هذان القصتان داخل هذه السردية الملحمية قائلا على لسان حاله في قصة كاكامش يغني لسليمة مراد ” حلت الظلمة شعرها الناعم الفاحم الطويل فوق أكتاف بغداد البيض كلكامش ببدلته الأنيقة يسير على رصيف شارع أبي نواس مستمتعا بهواء دجلة العذب يدندن بأغنية سليمة باشا مراد التي لحنها الفنان الراحل صالح الكويتي ” على شواطئ دجلة مر …”أنعطف يسارا صوب الكرادة التي يحب ويسكن الكرادة فتاه بغدادية حلوة مغناج بضفائر سود وبعينين تشبهان عيون المها ” وأثناء سير كلكامش تخترق أذنيه نباح كلاب القمامة الضالة لكنه يقاوم بالغناء مرتبكا وبينما يلتقط حجرا يدفع به شر الكلاب فوجئ بالحجر عبارة عن رأس كلب صغير بعينين حمراوين لامعتين كالجمر فارتعب وابتعد بضعة خطوات مرتبكة والتقط حجرا أخر كبير فاذا به أيضا رأس كلب بفراء أبيض وخطم أسود وبنفس العينين الحمراوين اللامعتين ارتجف ارتفع صوت لهاثة عاليا والكلاب تنبح بشراسة وهو يبحث عن حجر النجاة لكن الكلاب الجائعة تتقدم بنباحها المخيف الممتد نحوه بلاتوان ارتعب أكثر انهار لهث وراح يشاركها عواءها هذا المشهد الملحمي الذي يعانق مشاهد عديدة آثرة في المشهد القصصي كاملا لتلك المجموعة التي تجسد ملحمة أشبه بملحمة كلكامش بطل القص والسرد في قديمه وحديثه وهذا الانزياح الاسطوري يجاوره الفن بكل تجليلته من غناء وشعر ورسم وموسيقى برموز نموذج شارل شابلن ، حسن فايق ناظم الغزالي شهرزاد سليمة مراد ، بيتهوفن وغيرهم من شعراء و فنانين مشهورين نحتوا جدارية الحرية والحب في بغداد وغيرها من مدن العراق لنصل إلى قصة سيجارة الضابط العراقي هذه القصة التي هي أقصر قصة في المجموعة القصصية لكن أشعر بها قد بلغت المدى بتكثيفها وقصر الجمل وقد حاكت وافصحت عن كل ما هو مسكوت عنه ونخرت بعمق وكثافة وطلالة فنية بديعة داخل الجرح العراقي الفادح وبطلنا السردي يرتاد هيئة وروح كلكامش البطل الأسطوري العظيم بل ويسير بخطاه وهو متعثر الخطى يرزح بجراح الحرب والدمار فيستحضر روح جده المحارب الملهم لشد أزر الهمم ليستجمع قواه وينهض مرة ثانية وثالثة مهما خربت الحرب ودمرت النيران وأهلكت النفوس والجدران أي الوطن بعيون “سومرية سود تلتهب دما” وقد وقف بطلنا مهموما وسط ساحة ألحبوبي التي يتوسطها تمثال الشاعر المجاهد محمد سعيد ألحبوبي في مدينة الناصرية بعد خروجه من المدرسة برفقة زميله حيث مر رتل عسكري من اللاندكروزات اليابانية والوازات الروسية والفاوانات الألمانية والكمنز الروسية والأيفات محملات بالجنود والضباط الصغار يلوحون لطلاب المدارس والمارة المتعبين بعلانة النصر ويفسر المشهد القصصي التالي مكنون الجملة الأولى الهامة في بداية القصة “وقفت مهموما وسط شارع الهوى سابقا ألحبوبي حاليا في مدينتي الناصرية ” وقد شاهد هو وزميله أمه الشابة الجميلة زوجة الشهيد تصعد سيارة يابانية الصنع نوع تويوتا سوبر حمراء اللون يقودها ضابط يضع على متنه ثلاث نجوم ذهبية وجناحي صقر ذهبي ” وأثناء مرور السيارة من أمامهما رمى الضابط عقب سيجارته بوجيهما ” وهنا يتجلي الفصح الإبداعي والبغتة القصصية المدهشة التي أوجعتني كثيرا وكثيرا منذ بداية الإهداء حينما خط جملتة الاهبة “إلى بلد ميت ” فأحدثت صدمة القراءة كما فعلت تلك الجملة السردية البليغة المغزى ” وراح عقب سيجارته يعربد في الهواء حتى تلقفته الأرض : أرض العراق وحماة البوابة الشرقية يلوحون بعلامة النصر “.