” مرثيّة وطن ” زياد العوف / فرنسا

بحصيلةٍ إبداعيةٍ قوامُها أربعُ مجموعاتٍ قصصيّة وأربعُ رواياتٍ،بدءاً من مجموعته القصصيّة الأولى (سوق الغزل-١٩٨٧م) ومروراً بروايته الأولى ( الظهور الأخير للجدّ العظيم-١٩٩٥م) المتوّجة بالجائزة الأولى للرواية العربية ضمن جوائز الفكر العربي” جوائز د.سعاد الصباح” في القاهرة 1994 وفي الكويت 1995، وانتهاء بروايته( قيامة البتول الأخيرة- الأناشيد السّرّيّة) * الصادرة عام(٢٠١٨م) يؤكّد القاصّ والروائي زياد حمّامي رسوخَ قدمه في عالم السّرد الإبداعيّ.

روايته الأخيرة- موضوع البحث- أشبهُ بمرثيّة روائيّة حزينة يخصّ بها وطنه( سوريا ) المنكوب بأهوال الاقتتال الداخلي وما جرّهُ من تدخّل وتآمر خارجيّ هدّام، مسلّطاً أضواءً كاشفة ودالّة على مدينته(حلب) بوصفها بؤرةً عاكسةً لأحداث هذا الاحتراب المأساوي بين أبناء البلد الواحد، كما تمثّلهُ ( حارة المندرة ) الشعبية، بوصفها أنموذجاً حيّاً للإخاء الوطنيّ والتعايش السلمي بين مجموع الفئات والأعراق والطوائف والانتماءات التي تنصهر في بوتقة هذا الحيّ القديم.

لكنّ الكاتب يشير في تقديمه للرواية إلى أنّ الأمور ليست كما تبدو عليه في الظاهر، وهو يأخذ على عاتقه مهمة الكشف عن العلل والآفات الكامنة وراء هذا المظهر الخادع:

“قد يكون الواقعُ أغربَ من الخيال وأشدّ وطأةً……………ولهذا أردتُ أن يدركَ المرءُ ما يخفي في نفسه، وفي محيطه، وما يصاغُ في الأقبية السّريّة……بلا توجّس أو خوف أو خجل…………..وعندما يتأكّد المرء من ذلك……سيعرفُ حتماً كيف سيشيد حياةً مستقلّة حرّة……” ( الرواية،ص.٧)

يعِدُنا الكاتب، إذاً، بكشف المستور لتجاوز التخلّف والفساد والاستبداد وصولاً إلى بناء المجتمع الجديد السعيد…فكيف فعلَ ذلك، وهل وفِّقَ في مسعاه؟

يرتكز هذا العمل الروائيّ الغنيّ- فيما أرى- على ثلاث ركائز أساسية تصوغ المدلول الفكري والحيويّ للأحداث:

الركيزة الأولى هي مدينة حلب التاريخية بعمرانها وآثارها العتيقة القابعة تحت المدينة الحديثة، وهي بمثابة الجذورَ الحضارية لأقدم مدينة مأهولة في التاريخ، كما يلحّ الكاتب على ذلك غير مرّة، وكأنّ حلب العريقة تستمد وجودها وعراقتها من هذه الجذور الضاربة في أعماق التاريخ والتي تمدّها بنسغ التواصل مع حاضرها التجاريّ والصناعيّ المزدهِر.

د.زياد العوف

الركيزة الثانية تتمثّل في” البتول ” هذه الفتاة الحلبية النقيّة والعفيفة التي تعرّضتْ للمهانة والتعذيب والاغتصاب الجماعي الإجراميّ البشع في زحمة وفوضى الاحتراب الأهلي الشّرس .

أمّا الركيزة الثالثة فتتجلّى في شخوص الرواية الفاعلة التي تمثّل، على نحوٍ ما، صلة الوصل، أو ربّما القطيعة ما بين ماضي المدينة العريق وحاضرها المضطرِب. تتكوّن الرواية من أربعة فصول يتوزّع كلٌّ منها على عدد من المشاهد التي تَتَوالى وِفق رؤية فنّية مشوّقة تعتمد السرد والوصف والحوار المتنوّع، مع اعتماد أسلوب العودة إلى الوراء والاستبطان النفسي بما يشكّلُ نسيجاً نصيّاً متماسكاً أقربَ إلى أنْ يكون ( سيناريو ) متْقَناً يقدّمه الكاتب المحترِف هدية سينمائية شبه جاهزة للمخرج المنتَظَر.

المشهد الأول من الفصل الأول على وقع إزميل النّحّات( عبد السلام) الشخصية الرئسية لهذه الرواية وهو يقوم بنحت تمثاله( الحريّة) على وقع القنابل والرصاص والقصف المتبادَل، وتحت تأثير تأملاته واستبطانه الداخليّ.

• نقرأ في الرواية:

” ضَرَبات إزميل ناعمة تتنزّل على الرأس………تتوالى الضربات المتتالية من يدِ” عبد السلام” الرشيقة تُظهِر ملامح الخِصب والانبعاث من الرماد لجسد تمثال “الحريّة”:

تتعالى أصوات الاشتباكات بين فصائل المعارضة و”قوات النّظام”……..تتوالى الصور والمشاهد المؤلمة السريعة في رأسه……..يتذكّر بألم شديد ليلة سقوط البتول المريع……” إذ يحيلنا هاهنا إلى ليلة سقوط غرناطة في عملية قياس وإسقاط تاريخي إبداعي (ص.ص.١١-١٢)

وتتوالى الأحداث والمشاهد والشخوص في ذهن عبد السلام؛ حيث يعمد الراوي إلى تقديم معظَم شخوص الرواية من خلال استذكار بطل الرواية: الحاج الهلالي” الأب الروحي” للحارة، وأبراهام فارحي اليهوديّ الذي يدّعي أنّه يملك أقدم نسخة من التوراة، والمستعد لارتكاب كلّ الموبقات للوصول إلى أغراضه المتمثّلة في نهب آثار المدينة، وبخاصة تمثال إله حلب القديمة “حَدَد”، وابنته” ليزا” معشوقة عبد السلام، و” أبو الرمز” الفلسطيني أستاذ التاريخ الحامل لهموم فلسطين أينما حلّ، والعرّافة” خاتون”……

في لحظة روائية حسّاسة يتورّط عبد السلام بعلاقة سريعة تتوّج بليلة حمراء مع السائحة الكندية “سوزانا”

الذي يتبيّن لاحقاً صلتها التآمرية بأبراهام فارحي وجمعية ” إخوة الحليب” ذات الصلة بالماسونية والصهيونية كما تلمّح الرواية.

يعمد أبراهام إلى ابتزاز عبد السلام طالباً منه الانضمام إلى هذه الجمعية وتنفيذ مخطّطه بسرقة الآثار، وبخاصة تمثال الإله حَدَد وتهريبه إلى خارج البلاد.

جاء في الرواية:

“لم يستطعْ عبد السلام أنْ يفهمَ ما يختلج في صدر أبراهام، فسألهُ:

-هل تعني أنّك موافق على زواجي من ليزا…؟!

يبتسمُ أبراهام بمكر يحاول إخفاء مشاعره، وبادره بالقول:

-لا،لا، لم أقصد هذا يا أخي

-إذن، ماذا تقصد؟

هزَّ أبراهام رأسه، توجّه نحو الطاولة المستطيلة الفارغة إلّا من ظرف بريديّ أبيض………

-تفضّل يا أخي، لو سمحتَ، افتح المظروف، وستفهم بعدها كلّ شيء.

يتسلّم عبد السلام المظروف، يفتحه،

وحين ينظر إلى ما فيه يرتبك….إذ لم يكن هذا المظروف البريدي يحتوي على شيء مهمّ ، سوى تلك الصور الإباحية الكثيرة……لتلك الليلة الوحيدة التي قضاها عبد السلام منتشياً بين أحضان تلك السائحة الكندية سوزانا…”(ص.٢٧٢)

يتهاوى عبد السلام تحت وقع الصدمة والمفاجأة، ويعلن موافقته على بنود الصفقة مع الشيطان:

“-اشرب الحليب ياعبد السلام، اشرب، أنتَ من اليوم، أصبحتً أخاً لنا من إخوة الحليب.

تمسح ليزا شعرها الطويل بيديها، تشعّ عيناها ألقاً، إذ لم تشعرْ بالمفاجأة، ولم تشكّ بانضمام عبد السلام بعد مسيرة إحباطاته المتوالية………………

-حينَ غِرّة رفع كأس الحليب الأزرق، وقال:

-بكلّ فخرٍ سأخون ما كان يُسمّى وطني.” (ص.ص ٢٧٤-٢٧٥ ).

لكنّ الحريق الذي شبّ في حارة ( البندرة) بفعل القنابل المتساقطة عليها والذي أتى على كثير من بيوتها، بما فيها بيت ” الخوجة عيشة” والطفلة المتبنّاة ” هبة” وإقدام عبد السلام على اقتحام الدار المحترقة وإنقاذهما تحت شظايا القصف وألسنة النيران، كانت بمثابة المطهَر الذي طهّره من أدران التردّد والسقوط في بئر الخيانة،فكان أنْ بيّت في نفسه أمراً، إذ قرّر أنْ يتوجّه بتمثال الإله حَدَد إلى المتحف الوطني بدلاً من التوجه إلى خارج المدينة، حسب اتّفاقه مع أبراهام.

• نقرأ في الرواية:

“…….استمرّ في القيادة حتّى نهاية الشارع، حينذاك انعطف يساراً مخالفاً إشارات المرور، توجّه بالشاحنة نحو مدخل” المتحف الوطنيّ” العريض، ولمْ يأبهْ لصراخ حرّاس المتحف وأزيز رشّاشاتهم، بل اجتاز المتحف بصعوبة قصوى، وأمام درج المتحف توقّف، توقّف..تو..قااااف…………..

– سيّدي ! سيّدي! في الصندوق تمثال!

يترنّح عبد السلام فوق دمه الساخن ونزيفه، وقد انهار جسده، وتوقّف الزمن في خفقات فؤاده، ولومضة خاطفة تهيّأت له البتول. ها هي ذي تقفز أمامه بفرح، تطير كفراشة، ترتدي ثوب زفافها الأبيض، تنظر إليه بمحبّة وشوق، يمدّ يدهُ إليها، تشير إليه أن يطير مثلها……………

فجأةً، ظهرتْ في سماء المتحف الوطني حمامة بيضاء، تهادتْ برشاقة جانب جثّة عبد السلام، أدمعت العيون الغافية، في لحظة لن ينساها سكان المدينة، حتّى نهاية العالم.” (ص.٣١٣ )

يحظى عبد السلام بالشهادة، في حين ترفرف روح ( البتول ) فوق المدينة، وكأنّها الملاك الحارس الذي قام من الموت ليحميها، ويحمي أبناءها من السقوط في مستنقع الخيانة، بعد أن قدّمت جسدها الفاني على مذبح حلب الخالدة خلود الروح.

رواية” قيامة البتول- الأناشيد السرّيّة” رواية غنيّة بمضمونها، وأسلوبها الفنّيّ الشائق، ولا شكَّ في أنّها تمثّل محطّة بارزة، وعلامة فارقة في نتاج الكاتب المبدِع زياد كمال حمّامي.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

قيم ” التسامح ” و” التعايش ” في الشعر العربي

د.حسن بوعجب| المغرب             لقد اضطلع الشعر منذ القدم بدور تهذيب النفوس وتنمية القيم الإيجابية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات