*حول مسرحيتي ” لماذا..؟ ” و “الديكتاتور” للراحل الأديب اللبناني عصام محفوظ
يعالج الكتاب واقع التردّي العربي،في مستوياته الرّسمية ذات الصلة بالوضعيات المزرية للشرائح الاجتماعية الواسعة، ضمن قوالب تشخيصية تنذر بانفجار وشيك،
مهدد لأمن واستقرار هذه الدول المسخّرة لمصالح أهل الزعامة والحاشية ، شتى الوسائل القمعية وأساليب الاستبداد والتلاعب بمصائر الشعوب المقهورة والمغلوبة على أمرها.
إن هذا الخط التحريري “المُسيِّس” للعبة الكلامية مثلما ثم تناولها على الرّكح، يفيد أول ما يفيد،جملة من التلميحات إلى ما لاقته وسوف تلاقيه الأنظمة العربية من انقلابات وثورات تزلزل عروشا وتعصف بوهم وكاريزما الزعامة ، لتجيء بمفاهيم بديلة للدولة والمواطنة والانتماء.
فقد ضاقت بالمواطن البسيط في انحداره من هامش الحكاية،كل السبل، وغدت حالته من الدرامية بمكان، فقد معها كمّا من القيم التي تعطي معنى للإنسانية والوجود، كالحرية والكرامة والعدالة إلخ…
لعبة مسرحية تكشف زيف الزعامة والعروش، وتحرّض على النخوة والانتفاض والثأر للكرامة المهدورة والحقّ المصادر والمحتكر، تحت أقنعة هزلية،ملوّنة لراهن تراجيدي فائض، يستغرق بحمولة المعرفة المتوفّرة لدى العربي الاشتراكي الراديكالي، مجمل مشاهد الفصل المسرحي الطاعن بلذة تثوير العلاقة بين الحاكم والمحكوم،أو بالأحرى طابع الروابط ما بين الشعوب وزبانية الحكم.
صدّر الكاتب المسرحي المائز عصام محفوظ (1939/2006م) لمؤلفه البديع هذا والذي راعي فيه بدرجة أولى، ضرورة التبليغ ،و توصيل المحتوى إلى أكبر شريحة مجتمعية عربية ممكنة، عبر تقنيات بسيطة ومعجم دارج لبناني دمث،مع استعمال مقلّ ومتقشّف للفصحى، بما يحقق عمق المعنى واتقاد الرؤى المغلفة بالحديث اليومي المفهوم لدى العامة على اختلاف الوعي بالذات والعالم.
صدّر لكتابه بمتوالية آراء لصحف ومنابر إعلامية لبنانية، حول المسرحية الأولى، على وجه التحديد، راوحت بين مواقف الذم والانتقاص والنقد اللاذع،واللهجة الحماسية التشجيعية المعترفة بدور المسرح الحماسي الملحمي الثوري، في التغيير والضغط باتجاه تأمم خيارات شعبوية موحّدة قادرة على رسم ملامح الانطلاق نحو غد واعد و أفضل.
تومض فصول المسرحية الأولى، جوانب “جريمة ” اغتيال الإيديولوجية المغذّية للهيمنة الصهيونية، وهي بذلك تلعب على وتر القومية وتتجاوزه إلى أفق الأممية، بعد الاستفتاح بخلفية فردانية، تضع بطل الشخصية، سرحان في قفص الاتهام استنادا إلى شهود وهميين يذكون توتر العلاقة بين القمة والقاعدة مثلما صنعها المنعطف التاريخي المتجسد في نكسة حزيران.
فلقد زلزل وإلى حدّ بعيد، مشهد التكالب الصهيوني على مقعد العربي، بما يعني الأرض والوطن، المغتصبة فلسطين، إزاء حائط المبكى، بدعوى هيكل سليمان، وما شابهه، زلزل الوعي الجماهيري العربي ، وأصاب في مقتل سلبية سدنة العجز، وشهّر بخيانتهم للقضية،حدّ تجليات الخور والعار والخزي والتبعية العمياء لأعداء الجغرافية العربية،وغزاة مصالحها وثرواتها وخيراتها الوفيرة.
شخصية البطولة في محاكمة جانية عاكسة لواقع الذل والمهانة والخنوع، ونوعية تفشي خطابها ضمن تمظهرات ثلاثة ، حالة الزعيم( كصورة للشعب) الحكيم المعارض الذي في كل مرّة يصدّ صوته ويحاول إخماده جبروت المخزن في شخص ” العريف”،و سرحان المثقف الحذق المكتشف مبكرا لخبث وشيطنة الممارسة السياسية تجاه مصالح العرب، وفرج الله الحلو الشيوعي الصنديد والعدو الأول لثقافة الانفراد بموارد وخيرات الأوطان، ولسلطة الرّاسميل وخسة توظيفها في تجويع وإفقار واستعباد الشعوب، والتمكين لآل الزعامة وملوك القهر.
ينتهي المطاف بهذه الشخصية النموذجية في مقاومتها لأشكال الظلم وانتصارها للحس القومي و إخلاصها للقضية وذودها عن حقوق ومطالب العربي المهمش والمسحوق، تبعا لطقوس احتقارية ازدرائية مستفزّة ملطخة بتفاصيل البيعة المفروضة بسيف الإكراه(تعصيب عيني المتّهم وتركيعه) إلى ما ذلك من مظاهر الاستعباد وسلب الإرادة، و يطاله منطق التصفية الجبان،والمصادر لديدن وقناعة الاستشهاد بخيانتين داخلية من أخ عدو ،وخارجية من همجي غاصب.
” الزعيم: أنا أعتبر أن الحكومة قامت بمؤامرة ضدي وأنا أنظر إلى الذين تآمروا عليّ وإلى الذين حكموا عليّ بالإعدام وإلى الذين سيعدمونني ، نظرة احتقار…
الضابط : عصبولو عينيه..
الزعيم: مش ضروري، أنا مش خايف..
عسكري: القانون بيقول هيك(يعصبون له عينيه).
الزعيم: شكرا..
الضابط : ركعوه..
الزعيم: اسمحوا لي ما راح أركع..
عسكري: القانون بيقول هيك..(يركعونه).
الزعيم: شكرا..
عسكري:مرسوم رقم15520 بناء على أحكام القانون.
الضابط: شوف شو بدو..
(يقترب عسكري من الزعيم)..
الزعيم: (ببرودة) في بحصة تحت ركبتي عمبتضايقني.
الضابط:كاردي فو..
الزعيم: احكي عربي..
الضابط: متل ما بدك؟.. نار..
(يطلق ما يشبه النار)
شاب: “الأجيال الطالعة ستبحث في الماضي القريب عن إنسان يحب بلاده حتى الموت..”
هنا يضع العريف مشلح الكاهن حول رقبته. يبدأ بالرندحة حسب القداس البيزنطي:
العريف: مبارك انت يا الله علمني حقوقك.
الجميع: هو وووه”.
أما المسرحية الثانية المعنونة بالديكتاتور، فهي تنهج أسلوبا مختلفا آسرا للذوق والوعي على حدّ سواء، تتقاذف أقدار الضيم والغواية والتضليل، شخوصها ، ضمن خشبة تمييع صراع الجنرالات ، تستغبي أو تستحمر غفلة الملوك وتلهّيهم بنعيم الحكم، إلى أن يحدث الأسوأ.
“سعدون” الشخصية الطيبة البسيطة والساذجة، الخادم المطيع الملازم للديكتاتور ،في أعماقها تحمل قناع ملك فار من أحقاد شعبه عليه، واحتقان الشارع الأهوج المضطرب.
يختلق “سعدون” مكالمات هاتفية ترصد تجربة التمرد والانقلاب على النظام الملكي، من لدن جنرال ديكتاتور عارف بخبايا وأسرار تدبير الحكم.
يوهمه خادمه بمجريات خيالية تطاوع غرور هذا الديكتاتور الذي يرغب في بناء دولة جديدة على أنقاض تعداد جثث بحجم وطن مسلوب الإرادة منكسر متخبّط في مستنقع الانكسارات.
لأنه وبعد يأس الديكتاتور من تعقّب نهاية الملك، في خضم فوضى كاسحة وأهوال جمة واضطرابات التهمت بجحيمها الأخضر واليابس، حتى الصفحات الأكثر براءة وإشراقا في هذا العالم، الفنّ والأدب،سوف تحرقهما أطماع الجنرال الديكتاتور، وسوف تعتقل شعبا بأكمله، على نحو متوهّج بالتضخّم الأنوي و تجليات السادية والغرور.
إنها سلطة وبريق وهواجس السّبق إلى كراسي العروش، والتّربع على أحلام البؤساء،كأينع ما إليه جنون العظمة يقود.
يهتدي الجنرال في الأخير إلى أن الملك يسكن أعماقه هو، وأنه حتما سيلقى ذات المصير الذي يريده ل” سعدون” أقصد الملك المختبئ في سعدون،وبالتالي اغتياله ونزع صفة الخادم عنه بعد إقناعه بأنه هو الملك الهارب من أخطائه التي أودت بمستقبل شعب، اختار لغة التغيير بعد مكابدة الاستعباد والجور والحرمان والهوان.
“الديكتاتور: لو بتعرف قديش موتك مهم يا جلالة الملك..موتك هو اللي خلاني طيب كل هلوقت.
سعدون: فكلي ايدي.
الديكتاتور: بتحلف انك متحاول تهرب.
سعدون: بحلفلك اني مش راح اهرب.فكلي ايدي(الجنرال يفك قيوده).
سعدون: فكلي اجري.
الديكتاتور: انت متأكد انو مش راح تهرب؟
سعدون: فكلي اجري(يفك الجنرال قيود قدمي سعدون.يتراجع قليلا إلى الوراء).
………….
“الديكتاتور: جلالة الملك. راح قولك راح قولك.انا خايف.
سعدون: من شو خايف؟
الديكتاتور: خايف اني ما اقدر اقتلك.
سعدون: ما بتقدر تقتل انسان. انت قتلت الوف على التلفون.
الديكتاتور: على التلفون هين القتل يا جلالة الملك.بس انك تشوف انسان عم ينقتل قدامك…بعدين انت مش انسان عادي يا جلالة الملك.موتك راح يكون الحد الفاصل بين تاريخين.”
…………….
“سعدون: طالما انو الموت ضروري.مثل ما هي الحياة ضرورية.منشان النفوس الباقية والنفوس الجاي.اضرب.
(يتردد الجنرال)
الديكتاتور: مابقدر.
سعدون: اضرب.تذكر اني اللي خربت العالم. انا حصن العالم القديم.الشعب معتقل،مابدك تحرر الشعب…”
تبقّى أن نشير إلى كون عصام محفوظ صرح في مقال استهل به كتابه هذا الذي بين أيدينا، بأنه وأمام مزيج اللعب والبكاء والفرجة،احتفالا بعاشوراء،كفكر وكطقوس وكسلوكيات، يقف الغريب،مذهبا وبلدة،مذهولا ومبهوتا،طارحا على نفسه في نهاية الحفلة أسئلة لم تكن لترد من قبل، تربط الضمير بالتاريخ،وتبحث في ماهية مثلب الظلم.
ويضيف: “كان احتفال العاشوراء المسرحي تنقصه الكلمات التي تبرر الشهادة،مبتدئة بعلي منتهية بالحسين، الكلمات التي حاول علي زرعها عبثا في واقعه.كنت أدرك أنه بوجود هذه الكلمات يخرج احتفال العاشوراء عن دينيته ،ليصير احتفالا مدنيا يخاطب ليس العاطفة وحسب، بل العقل والمنطق عند الأغلبية التي مصلحتها في تحقيق معاني هذه الكلمات الصادقة عن الحق والخير والعدل.فمقتل علي أو مقتل الحسين هو مقتل الكلمة ،القضية، وليس الشخص.التاريخ يحفل بالقتلة والمقتولين، صغارا وكبارا،المقتلة التي يستحق أن يحتفل بها حقا هي المقتلة الرمز.”.
كنتيجة لهذه المجازفة التي اختار صاحبها أن يجانب مسار المشهدية المسرحية العربية، ويكتب من داخل خطوط النار، ويستجيش كبت المواطن تجاه أنظمة القمع والاستناد ،بروح وعقلية ووعي اشتراكي متحرر ومتحضر محبّ للحياة و ماقت لشهوة القتل ولغة العنف والخراب،لا يسعنا إلا أن نبصم بالعشرة لصاحب هذا المنجز التنويري ،في شفافية وهشاشة سطحه، وعمق واتقاد طياته ،بكل ما يحيل على القراءات الاستباقية ممزوجة بمتون الهزلي المروح عن الذات المكروبة والمشطورة إلى وجعين:وجع الصبر على حماقات الحكام، و وجع التكهن بما يمكن أن يؤول إليه عالم ما بعد الثورات في اشتعال حمّى المساومات عليها واحتكار رمزيتها والاتّجار بمكتسباتها.