أحمد شوقي: سنوات مينادا

خلف النافذة التى أعماها البخار وبعيون ثملة شاخصة تنظر إلى عابر سبيل ، يتأبط جريدته ويتلحف بمعطفه الذى طوى طرفه على رأسه كمظلة ، لقد كان الطقس طائشًا ، وزخات المطر تنقر الزجاج وتداعبه كأنها أصابع خشنة مليئة بالوسخ تداعب سرة مراهقة تربت بين  الراهبات ، كانت ( مينادا )  ترتدى ثوبًا أرجوانياً عليه بعض الزهورالمنثورة كنمش يُزين وجه مريم المجدلية  أربعينية تعيش فى أزقة براغ  ( مينادا )  التى تخطت الرابعة والأربعون وبضع شهور وثمانية وعشرون يوماً ، سنواتها الفائته صدوع فى سقف غرفتها ، كل صدع منها يمثل حدث أو هروب أو نزوة عابرة ، هذا الصدع الطويل النافذ فى السقف وجوانب الجدران حدث يوم رحيل إبنها ( آسر ) لقد نفذ الخبر إلى قلبها كسهم محترق طائش ، لقد طلبت منه أن لا يزور بيروت فى هذه الأيام ، كانت أيام حرب ، والغرابيب كانت ترنق فى الفضاء وتعيد ترتيب ريشاتها تحت المطر الكثيف ، ولكنه زار بيروت وتغنى ببيروت ومات ببيروت أصابته رصاصة مع أنه لم يلوح بالبندقية ، فى خطابها الأخير له ، كررت على مسامعه مخاوفها من وجوده ببيروت  لقد كانت الصور المحرمة تأتى من هناك وتحمل بين طياتها مأساة إنسانية ، حرب أهلية ، لا أحد يعرف على وجه الدقة أسبابها أو أطرافها أو موتاها أو أحياؤها ، حرب غامضة ، طائشة ،  حكت له كل ذلك ، غير أن رده كان  ” زمن السلم نفخ بطون الفئران تحت أكثر الموائد شحاً خلال أطول معارك الجوع لكى يأتوا لاحقاُ إلى كوابيسنا ” ، لقد سقاها آسر الخلٌ أوعيتاً ، لقد قطع بسكينه قشرة الضوء التى كانت تختبىء خلفه ، وتركها عارية فى دُكنة الليل الغائم  كريشة فى خريف برائحة الشتاء ، أصبحت حجرة ذابلة وزهرة تقطر الدم بدلا من الرحيق ، جعل عالمها رمادياً ، هى على إستعداد للموت من أجل اللآشيء …سنوات الثورة والحب ، سنوات السٌلم والحرب ، أيام العجب والموت ..إنها أيام حافية هذه التى تحياها       ( مينادا ) هلاوسها واقعية أكثر من الواقع وواقعها مليء بالهلاوس وقد تخطت نقطة التحمل ووصلت لنقطة اللاتحمل ، تلك النقطة الساحرة منطقة إنهيار جدران الطمأنينة ، ثلاث محاولات فاشلة للإنتحار وأضعافها فى العيش ، كانت تتمدد تحت ضوء الشمس كشريط حذاء هامد ، لا يقوى على شىء …

وضعت كومة الأوراق على الطاولة وبدأت تخمشها وتحك سن القلم بالأوراق كأنها تحلب منها الحليب المرٌ، الأن يا ( آسر ) تطضجع بجوار الموتى قدماً بقدم ورأساً جنب رأس ، أجفانك تحتضن الظل ، تداعب الفراشات قبل أن تحترق وتُبصر ضوء الشمس المتلألأ وهو يضاجع صخب البحيرة …

بعد دقائق من التحديق المتواصل بالأوراق أصابها الضجر ..مزقت الأوراق وأطاحت بالقلم ، لم يعد شىء يؤنس وحدتها ويبعث بداخلها بعض الطمأنينة ، هرولت إلى خزانة الملابس وفتحت ضلفتيها على وسعيهما وفضت ما بداخلها من ثياب وأوراق نثرتها على أرضية الغرفة وجلست فوقها كشمعة تحترق وسط كعكة حجرية ، أو بالأحرى كنملة فى حداد بدات تنبش بيديها فى كومة الأوراق وأخرجت دفتر يوميات ( آسر ) كان قد أحضرها أحد رفقائه من بيروت يوم أن جاءها بالخبر المشؤم لفت نظرها العنوان ” الألوان الهاربة تموت  ” وبدأت تقرأ السطور.

*قاص من مصر

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

(أنا حجر وحيد) للشاعر حمدان طاهر.. جديد المختارات الشعرية المترجمة إلى الفارسية

عن دار همسايه في طهران يصدر للشاعر حمدان طاهر مختارات شعرية مترجمة إلى اللغة الفارسية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات