“الإنسان والمجال” عبد العالي الوالي / المغرب

التغيرات الثقافية لمنطقة “الظهرة ” في القصيدة الزجلية

      تعتبر القصيدة الزجلية إحدى أهم ملامح الثقافة بالمجتمع والمجال ب “الظهرة “وهي بمثابة حامل طبيعي للذاكرة الثقافية والاجتماعية والمجالية وإنتاج ثقافي للتفاعلات التي يتحكم فيها المتغير الثقافي والسيكولوجي. كما أنها تجسد تعبيرا عن الارتباط بالأرض والمجتمع وتحمل تمثلات وتصورات حول الحياة العامة بالمجال الذي يعيش فيه الشاعر، يتغني فيها بحبه للأرض التي ولد ونشأ فيها ولأهلها ولكل مجريات الحياة بها.

      ومن أهم وأجمل القصائد الشائعة التي تغنت ب “الظهرة ” قصيدة للشيخ والشاعر محمد بنسعاد البوشيخي”اتفكرت الظهرة” والتي رسم من خلالها معالم وصور الحياة ورصد أهم التغيرات الثقافية التي شهدها هذا المجال الذي يعيش في كيانه ويشكل ذاكرته التي تستيقظ كلما تذكر “الظهرة” حيث  قال في مفتتح قصيدته:

[ اتفكرت الظهرة أو بانو المراسم … يا حسراه زمان كنا فيه صغار ] .

         لازمة رددها الشاعر في كثير من الوقفات وجعلها مفصلا أساسيا لقصيدته بما يؤكد استغرابه ونكرانه لما حدث من تغيرات شبه جذرية لثقافة أهله وناسه ومجال كان حضنه الأول في الحياة.

     ومنطقة ” الظهرة ” بهذا تمثل صورة مثالية لطفولته إلى درجة التحسر عليها بما يحيل على كونها تحمل تصورا جديدا وصورة غير التي عهدها الشاعر، وهو ما يدل على حدة التغيرات التي شهدها المجال. حيث قال:

[ كانت سكنتنا خيمة من لهدم … ما شفت البنيان ما نعرف للدار ] .

         من هنا يتبين بأن السكن كان في الخيام ولم يكن للبنيان أثر، لكن الحال لم يعد كما كان عليه حيث أصبح المجال مليئا بـ” الديار”. والخيام تنتشر في المجال بشكل متباعد غير ما كان معهودا عند قبائل “بني كيل “حيث كانوا يرتحلون في جماعات تشكل ما كان يسمى بالدوار.

       وكان بناء الخيام في ثقافة بني كيل وغيرها من الرحل في المنطقة بشكل عام من مهمة المرأة، تعلمت بناءها بكثرة الترحال والتكرار. وكانت تعتمد على نفسها وقدراتها الفردية دون استئجار أحد لذلك، وهو ما يدل بشكل صريح على غياب مفهوم الأجير في الزمن الماضي في نظام القبائل التي استوطنت ونزحت لـــ ” الظهرة ” ، ودليل على أهمية المرأة في المجتمع الرعوي المرتحل. كما لم يكن بناء الخيمة يحتاج لترخيص أو رسم هندسي ولا لأخذ مقاييس معينة وهو ما يؤكده الشاعر بقوله:

[ تبنيها المرا وتكون تنجم … كثرة الرحلة أ تعلم والتكرار

ما تأجر خدام وتجيب ملعم … ما تشري طوبة وتكركر لحجار

ما ليها ترخيص ويجيك مقدم … ما دير بلانات و تكثر لعبار ] .

       إن ثقافة البناء الحديثة والتي تعتمد على الهندسة المعمارية وعلى الضوابط القانونية التي حملتها الأنظمة الحديثة وحضور السلطة في شخص المقدم لتنظيم ومراقبة عملية البناء، كلها عمليات ترسم ملامح التغيرات الثقافية التي شهدتها  “الظهرة ” ومعها     المجتمع “الكيلي” الترحالي وفق آلية الانتشار التي نهجها الفاعل الجماعي الذي يمثل الدولة والفاعل الاستعماري قبلا.

      كما صور الشاعر من خلال قصيدته صورة الخيمة، والأدوات التقليدية التي تستعملها القبائل المرتحلة، والأطعمة التي تمثل المنتوج المحلي وبعض الصور الجمالية لنمط الحياة الذي لا يفارق مخياله كلما تذكر “الظهرة ” موظفا بذلك معجما محليا نابضا،ومعبرا عن قوة الانتماء الاجتماعي للمجال، وعن الانخراط الفعلي داخل الوسط التنشئوي فأنشد قائلا:

[ ما فيها بيبان وتبلّع زكرم … غي سمي بالله واسمك الشمار

وخولفها مهبة وتعني سرجم … هاد الخيمة امبيحة وسط النوار

ارحل احمار والقش امنظم … وكروز اماعين هو لبلاكار

لمناصب والنار والمقراج افحم … والكشكوشة خارجة ترمي لفار

الصينية تكدي وامكب مركم … براد اعشاري وكيسان البلار

أتاي القرطاس صندوق امحزم … والكلسة بشواقها تحي لفكار

الكربة فهبوب اشرب واترحم … والشكوة مدبوغ بشبوب وعرعار

لكليلة وجبن والميص امعرم … والزبد كي دايبة والسمن الحار

سفه والسيكوك مردود امقوم … والبنة كاينة فطياب النار].

     كل هذا تمثل للحياة وصور لم تعد ترى منها إلا النزر القليل، وهو الأمر الذي لاحظناه عند زيارتنا لهذه القبائل، حيث تغير نمط العيش بشكل يجسد فارقا كبيرا بين الثقافة الأصلية والثقافة الحديثة، ثقافة أصلية تكاد تنعدم عند الكثير من الأسر التي كان لنا حظ زيارتها عند مراجعتنا لهذا المجال، الذي بصم فيه الفعل الثقافي التنموي والتحديث القروي بصمة قوية نكاد نقول أنها أعدمت صورة الشاعر التي رسمها في ذاكرته وتمثلاته لــ ” الظهرة ” بأهلها وبيئتها وكل تجلياتها في الزمان والمكان. فالخيمة آيلة للاندثار إلا في مواقع قليلة، والأدوات تم استبدالها كما يبين الشاعر ذلك ولو بصورة غير مباشرة حينما وضع” الكروز” في مقابل   “لبلاكار” قائلا:

[ارحل احمار والقش امنظم … وكروز اماعين هو لبلاكار].

      وعملية التثاقف هنا شكلت وجها حقيقيا للتغير الثقافي ليس فقط على مستوى الاستعمال الأداتي  بل تعدّته إلى الاستعمال اللغوي “التغير اللغوي” فمصطلح “لبلاكار”  le placard مقتبس من اللغة الفرنسية أي لغة المستعمر كـ” الطابلة” مثلا la table. وهنا تتجلى الأهمية التوثيقية للزجل كفعل منتج للثقافة وفاعل في التغير الثقافي.

      ولم يغفل الشاعر في قصيدته التغني بجمال المجال وبمكوناته الطبيعية التي شكلت عبر الزمن معجما زاخرا بالتنوع والتعدد ساهم في إغناء ثقافة المجتمعات الرعوية المرتحلة التي نزحت لــ ” الظهرة ” والتي شكلت ولا تزال محط إغراء العديد من الرعاة الأجانب. مستحضرا في قصيدته هواء “الظهرة “ومروجها والمنتوجات الطبيعية الطبية منها كـ”الشيح”والغذائية كـ” الترفاس” منشدا:

 [ هواها صافي أبالشيح أمنســـــــــم***لمروج الطالعه تشفي لبصــــــــار
ترفاس أوترغال لازم تاكلهــــــــم***والعيهڭان أمليح ارواح الى فـــــار
تالغوده والڭيز ثم تلقاهــــــــــــــــم***بلعمان أجرير مزينهم بزهـــــــــار
التوشنة والحرمل حوس تلڭاهـــــم***والسرغينه عطرها لتبخـــــــــــــار
السنغ والحلفه تڭيل فظراهـــــــــم***وسعفهم مليح نظره لــــــــزرار].

     كما صور الشاعر من خلال هذا النص التوثيقي بعض الأنشطة الثقافية التي عرفتها الساكنة الرعوية ب “الظهرة ” كالصيد والفروسية أو ركوب الخيل، وهي أنشطة لا تزال قائمة لحد الآن. فقال:

[ حيحايه فالصيد وسلاڭ معاهم***وقوانع أظواري تفهم بالتصفـــــار
لرنب والجربوع مزينهم بلحم***وطيور ألقطا حجلات ألحبــــار
وڭطايع لغزال فالراقب هايــــم***ومحابس لروي تبع غي لمــرار
اتفكرت الظهرة أبا نو لمراسـم***يا حصراه أزمان كنا فيه أصغا
والهندام أمليح خيدوس إوا لــم***تيجان أعلى الراس رزه والڭنـار
ومكاحل بارود فالفرح تزڭلـــم***طواعين الخيل والفارس مغـوار].

      إن هذه الأنشطة رسمت وأثثت لعلاقات تتصف بالمتانة، وتعزز الروابط بين القبائل. لكنها عادت بوجه مختلف من خلال صياغتها ضمن البرامج الثقافية للمهرجانات المحلية والوطنية التي تنظمها بعض الجمعيات بدعم من المؤسسات المانحة في إطار تثمين المنتوجات المحلية الرعوية كمهرجان “معتركة ” الذي يجسد صورة من صور التغير الثقافي بالمنطقة.

      وختم الشاعر قصيدته بدرامية مفرطة وبصورة قاتمة لهذا المجال الذي طالما كان مصدر بهجة وشموخ وعزة له، وضمّنه مناجاة ورجاء قدسيا، وصلاة مفعمة بخشوع العاشق الذي يتوق شوقا للقاء محبوبته.

[ حوست الظهرة وبقيت انخمم***في ذالوقت اللي صرنا فيه أكبار
زال النبات وبقى غير الصـم ***والغبره نقاع جوك راه أصفــار
ورماد الخيام ول كي لوشـــــــم***هجروك أماليك ورجعتي قفــار
نطلبو ربي من عندو يرحــم ***يسقينا بالغيث والظهرة تخضار
والصلاة على النبي بها نختم***وصلى الله عليه ما شافت لبصار].

    وكأن الشاعر من خلال قصيدته يريد أن يصور لنا حسرته على انقطاع علاقته الفعلية بالمجال رغم حضوره القوي في مخياله، علاقة ترتسم في جمالية الصورة الشعرية التي وظفها ورمّزها بخطوط اجتماعية ساهم المجال في نسجها بين الرعاة المرتحلين و” الظهرة “،  إن هذه العلاقة القدسية بالمجال” الظهرة ” تحرك العديد من الأسئلة في أذهاننا وتفكيرنا حول أهمية المجال في إنتاج الثقافة و ترميز العلاقات وإعطائها المعنى، وخلق التغيرات الثقافية والاجتماعية من خلال مجموعة من العمليات الثقافية المنتجة للفعل الثقافي والفاعلة في التغير.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“الحكي الشعبي والسلطة “مصطفى لكحل ـ المغرب

"ذات مساء من أماسي الثلة الصالحة التي تزينت بها حياتنا ، كان الحكي الشعبي مثار حديث بيننا من خلال شخصية ارتبطت بالذاكرة الشعبية ارتباطا قويا ممتدا في التاريخ منذ سالف الأزمان والى يومنا الحاضر- وان أصبح دوره يتوارى بفضل التقدم التكنولوجي الغازي والزاحف على مختلف مناحي الحياة - هذه الشخصية هي شخصية " البراح" التي ارتبط ذكرها بالأعراس والحفلات والمواسم والمهرجانات بشكل كبير، فتحفظ له الذاكرة الشعبية الشفهية كثيرا وقليلا الذاكرة المكتوبة، جملة من المرتجلات الشعرية والمواويل والأراجيز،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات