إضاءة عامة:
يعدُّ الجنْسُ فِي كل الثقافات ممَارسَةً وحدِيثاً مَثار جدلٍ متنوع المرجعيّات الأنثروبولوجية والدينية والعلمية والاجتماعية والقانونية. فكلمة “الجنس” مُفْردة إشكال، لمُجرّد التّلفُّظُ بِها، فضلاً عن الغوْصِ فِي مَضامينِهَا وسَبْرِ أغْوارِهَا؛ الشّيء الذِي يُسْفرُ عن العدِيد من الإشكَالات.
ويرتبطُ هذا، بمَدَى تطوّر الوعي البشري تاريخيّاً، حيث يؤكِّدُ بعضُ الباحثين على الانقطاع بين ظهور التشريح الحديث والسلوك الحديث الظاهر متأخراً قبل أربَعِين ألف سنة[1]، وخلال هذه الفَجْوة الزّمنية، تمت طفرة جينية أثّرَتْ على مدَى تطوّر القدرة المعْرفية التي ستسْتَمِرُّ فيما بعد 50 و40 ألف سنة، والحديثُ مِنْها ارتبط بالتّشْريح الحديث. وبذلك، نشأت وتطوّرت تدريجيّاً المظاهر المتنوعة للثقافة الإنسانية على مدى آلاف السنين المُتوالِيّة[2].
بذلك، فعلى الرّغم من أنّ مسألة الجنس غريزة فطرية لدى الإنسان، مثل غيره من باقي الكائنات الحيّة، بُغية تكاثر النوع البشَرِي وعمارة الأرض، فإنّهُ مع التطور الذي عرفه الإنسان، منذُ القِدَم، فهو ذو مُسْحة ثقافية تبعاً لتفرُّد الإنسان، وَفْقَ نظرية الثّقافة، بهذه الميزة.
تبعاً لهذه النظرية، ترتسمُ لدينا حقيقتين هما؛ الأولى أنّ الإنسان كائنٌ اجتماعي. والثانية تتّصِلُ بالسلوك الإنساني الصادر في أنماط وأشكال تتّسمُ بالاطّراد والتواتر، وعلى إثر هذا، تنشأُ القواعد، وتُسنُّ القوانين في نطاق مفهومي: الثقافة والمجتمع.[3] ويندرجُ، ضمن هذا السيّاق، السّلوك الجنسي للإنسان الذي ينبغي أنْ يُمارَسَ فِي ظلّ ضوابطَ وأطر شرعية وقانونية تحميه من همجيته، حفاظا على النّاس وقيم المجتمع التي بدونها لا قيمة لهُ.
وتتعدّدُ مظاهر السلوك الجنسي لهذا الكائن الثقافي، مثل (التحرّش الجنسي) الذي وإن ارتبط بطبيعته الإنسانية/ الغريزية، فإنّه يتّسمُ، في ظل القيم الثقافية والمجتمعية، بالعنف المبني على النوع الاجتماعي، لكونه مخالفا لتلك القيم، وهو ما جعل القوانين والمصادر الشرعية تُعِدُّه جرماً ينبغي التصدي له ومحاربته، منذُ القدم، وإن لم يُعرف بهذا المصطلح.
1- العنف والعنف القائم على النوع الاجتماعي:
1-1- مفهوم العنف:
العنفُ في اللغة يأتي بمعنى “الخُرق بالأمر وقلة الرِّفْق به، وهو ضدّ الرّفق”[4].ويُراد به الشّدة والخُرق. وفي اللغة الفرنسية؛ من كلمة violence الشبيهة بصفة عنيف violent، والفعل violer؛ الذي يعني تعمُّد ممارسة القوّة ضد شخص آخر. والجمع قُوى vires التي تعني القوى الفيزيائية الضرورية بهدف استعمال العنف vis.[5]
أمّا في الاصطلاح، فتتعدّدُ التعاريف، وتختلف باختلاف المرجعيات المعرفية والعلمية والفلسفية. ويُشيرُ معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية إلى أنّ هذه الظاهرة تعني “الاستخدام المفْرط للقوّة بصورة غير مباحة شرعاً أو قانوناً، من قِبَلِ فرد أو مجموعة من الأفراد، بُغية إجبار الآخرين على الانصياع لرغباتهم أو تبنِّي أفكارهم أو رؤيتهم الخاصة للأمور الحياتية المختلفة”[6]، ممّا يُسْفرُ عن فوضى مجتمعية، وآثار جسدية ونفسية وَخِيمَة ينبغي التّصدِي لها.
والعُنف أنواع، سواء كان مُباشَراً أو غير مبَاشَرٍ. وَوَفْقَ هذا السياق، سنحاول الوقوف عند العنف الممارس ضد النساء، أو ذلك القائم على النوع الاجتماعي.
1-2- العنف القائم على النوع الاجتماعي:
1-2-1- المفهوم والأنواع:
يرتبط مصطلح “النوع الاجتماعي” بالكلمة الإنجليزية (gender) التي تُغيِّرُ معناها على مرّ الزّمن، فقد كان لها تعريفُ الجنس نفسه، لكن حمولته المعرفية كأنها بعيدة عن مفهومي الثقافة والمجتمع. لهذا يشيرُ إلى “الفوارق الاجتماعية المكتسبة بين الذكور والإناث. وعلى الرغم من أن هذه الفوارق الاجتماعية متجذّرة في جميع الثقافات، إلا أنّها قابلة للتغيير مع مرور الزمن، كما أنّ لها تنوعات كبيرة سواء داخل الثقافات أو فيما بينها. ويحدد “النوع الاجتماعي” ما للذكور والإناث من أدوار ومسؤوليات وفرص وامتيازات وتوقعات وقيود في كل ثقافة”[7]. أما العنف القائم على نوع الجنس أو النوع الاجتماعي (الجنسي الجنساني SGBV) فهو مصطلح يشيرُ إلى أشكال العنف الممارسة ضد النساء بشكل استثنائي أو مُتعمَّد جسميا أو نفسيا.
وَفْقَ هذا السيّاق، يتشكّلُ مفهومه العلمي من جملة من المفاهيم الجوهرية، نوردها باختصار، وهي: (النوع الاجتماعي، الجنس، حقوق الإنسان، الأذى، القوة، الموافقة، الإكراه، إساءة المعاملة، العنف). ومن هنا، فإنّ “العنف القائم على النوع الاجتماعي هو مصطلح شامل لكل فعل مُؤْذٍ يُرْتَكبُ ضدّ إرادة شخص ما، ويعتمِدُ على الفروق المحددة اجتماعيا بين الذكور والإناث (النوع الاجتماعي). وتُشكِّلُ أعمالُ العنف القائم على النوع الاجتماعي انتهاكاً لعدد من حقوق الإنسان العالمية التي تحميها المواثيق والاتفاقيات الدولية. وتُعدُّ الكثير من أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي- ولكن ليس كلها- أفعالاً غير قانونية وجنائية في القوانين والسياسات الوطنية”[8].
ويصلُ معدل انشار العنف القائم على النوع الاجتماعي، عموما، إلى (1/3) أي تعرض واحدة من بين ثلاث نساء للضرب، أو الإجبار على ممارسة الجنس، أو شكل آخر من إساءة المعاملة في حياتها[9]. أي بنسبة (33,33) في المائة، بمعنى أن أكثر من رُبُع نساء العالم يتعرّضن إلى هذا الصنف من العنف، الذي يعرفُ أنواعاً مُتعدّدة، عبر مراحل الحياة، تمتدُّ من مرحلة ما قبل الولادة إلى مرحلة الشيخوخة. وهي على الشكل الآتي:
مرحلة ما قبل الولادة | مرحلة الرضاعة | مرحلة الصبا |
-الإجهاض الانتقائي. -الضرب أثناء فترة الحمل. -الحمل القسري (في حالة الإبادة الجماعية) | -وأد الإناث. -تشويه او بتر الأعضاء التناسلية للإناث (FGM/C). -الإساءة العاطفية. -الإساءة البدنية. -تفاوت فرض الحصول على الغذاء والرعاية الطبية. | -الزواج القسري. -تشويه أو بتر الأعضاء التناسلية للإناث (FGM/C). -الإساءة الجنسية من قِبَلِ العائلة أو الغُرَباء. -عدم تساوي فرص الحصول على الغذاء والتطبيب. -البغاء القسري. -الاعتصاب. -الاتجار |
مرحلة المراهقة | مرحلة سن الإنجاب | مرحلة الشيخوخة |
-الزواج القسري. -تشويه أو بتر الأعضاء التناسلية للإناث (FGM/C). -العنف أثناء فترة التعارف والمواعدة. -الجنس في مقابل سلع أو خدمات. -الإساءة الجنسية من قِبَلِ العائلة أو غُرَباء أو معارف. -التحرش الجنسي. -عدم تساوي فرص الحصول على الغذاء او التطبيب. -البغاء القسري. -الاتجار | -سوء معاملة الشريك الحميم. -الاغتصاب الزوجي. -إساءة المعاملة والقتل. -الإساءة الجنسية في مكان العمل. -التحرش الجنسي. -الاغتصاب. -إساءة معاملة النساء ذوات الإعاقة. | -إساءة معاملة الأرامل. -إساءة معاملة المُسِنّات. |
1-2-2- الأسباب والعواقب: شجرة العنف القائم على النوع الاجتماعي:
للعنف القائم على النوع الاجتماعي أسباب وعواقب. وسنمثل لهما ب”شجرة العنف…”، حيثُ يمكنُ الحديث عن الجذور والطقس والأغصان تمثيلا للأسباب. بينما الأوراق تمثيلا للآثار والعواقب.
فالجذور؛ تعني الأسباب الجذرية المتمثلة في ممارسات التمييز بين الجنسين داخل مجتمع معَيّن؛ حيث تظلُّ المرأة في موقع التبعية للرّجل، وتُسْهِمُ عوامل انعدام القيمة الاجتماعية والاقتصادية للمرأة في هذا الافتراض المتمثل في أنّ للرجل سلطة اتخاذ القرارات والسيطرة على المرأة.هذا، علاوة على سعي أصحاب الامتيازات والنفوذ إلى الحفاظ على هذا الوضع، استخفافا بحقوق الإنسان والمساواة بين الجنسين والديمقراطية، بل، في كثر من الأحيان، يلجؤون إلى وسائل غير زجرية لحل مثل هذه المشاكل، دون الاعتراف بالمساواة بين الجنسين ليَبْقَى الوضع القائم على ما هو عليه.
بينما يُشكّلُ الطّقسُ ودرجة الحرارة العوامل الطبيعية المساعدة على نمو وتقوية هذه الجذور. ويتمثلُ هذا في عدم المساواة والتمييز بين الجنسين. في حين تشيرُ الأغصان أو الأفرع إلى أصناف هذا العنف، وهي أربع فئات، وهي: الإساءة الجنسية، والإساءة البدينة، والإساءة العاطفية والنفسية، والإساءة الاقتصادية. لتدلَّ الأوراق على الآثار المترتبة عنه، حيث يُسْفرُ عن آثار بعيدة المدى على الأفراد والمجتمع، مثل الآثار الجسدية (الأمراض المنقولة جنسيّاً والحمل غير المرغوب فيه…). والآثار العاطفية والنفسية (الشعور بالذنب والخزي). والآثار الاجتماعية (العزلة والنبذ..) وغيرها.
بعد هذا التأطير المنهجي والمعرفي، سنحاول تخصيص الحديث عن “التحرش الجنسي” باعتباره ظاهرة من ظواهر العنف القائم على النوع الاجتماعي، سواء بشكل عام. أو بشكل خاص يهم المجتمع المغربي. معتمدين في ذلك المقاربة القانونية في نطاق القانون المغربي الذي يسعى جاهدا، منذُ سنوات، إلى محاربة هذه الظاهرة والعمل على الحدِّ منْها، لإيمانه بالمساواة بين الجنسين، وحقوق الإنسان، وحقوق المرأة، كما نصت عليها القوانين والمواثيق الدولية. فضلا عن المقاربة العلمية المرتبطة بعلم النفس الاجتماعي.
2- التحرُّش الجنسي: المظاهر والأسباب:
2-1- مفهوم التحرّش الجنسي:
التحرّس في اللغة؛ “من الحَرْشِ، وَ التَّحْرِيش بمعنى إغْرَاؤُكَ الإنْسَانَ والأسَدَ ليقَعَ بِقَرْنه. وحَرّشَ بينَهُم: أفْسَدَ وَأغْرَى بعضَهُم بِبَعْض (…)”[10]. والجنسي: “الجنسُ ضَرْبٌ مِنْ كُلِّ شيْء، والجَمْع أجْنَاس وجُنُوس، والجِنْس أعَمُّ مِنَ النّوْع (…) ويُقَالُ هذَا يُجانِسُ هذاَ أيْ يُشَاكِلُهُ”[11]. وفي المعجم الوسيط: “الجنس هو اتّصَالٌ شهْواني بين الذّكَر والأُنْثَى”[12].
من هنا، يتّضحُ أنّ لفظ (التحرّش الجنْسي) يُقصد به الإغواء والإغراء والإثارة، وغيرها من المُضايقات والابتزازات الجنسية والمراودة عن النّفس، بُغية الإيقاع بالصحية في الجنس. وكُلُّها معانٍ مرفوضة دينيا وأخلاقيا وقانونيا، حيث يخرُج الإنسان من دائرة الإنسانية إلى دائرة الحيوان في ظل التجرّدِ من التمييز والعقل.
وفي الاصطلاح، تتعدّدُ التعاريف رغم صعوبة ذلك، لأنه مفهوم مركب ومُعقّد، مادام يتضمنُ أفعالاً وسلوكاتٍ متداخلة ومتزامنة، ومنها الخفي والظّاهر[13]. ولكن أهمُّ هذه التعاريف، هي التي تَعُدُّهُ “عبارة عن سلوك غير مرغوب فيه يتضمن مجموعة من المعاكسات الجنسية سواء لفظية أو غير لفظية أو جسدية تصدُرُ من المُتحرّش في أيّ مكان –عام أو خاص أو غير مطروق- تسبّبَ للمتحرَّش به آثاراً نفسية أو اجتماعية أو مادية سلبية، ويُستخدم هذا المصطلح للدلالة على السلوك الذي يتبعُهُ الشخص لإغواء وإثارة شخص آخر، ودفعه إلى ارتكاب أفعال جنسية لا أخلاقية، وأنّ مَن يقوم بهذا الفعل يتعرّضُ للطرف الآخر لإثارته بأيّ وسيلة من الوسائل كالتأمُّل والنظر المتفحص والغمز بالعيون ولمس اليد وأطراف الجسد والابتسامة والتغزّل وصولاً إلى ضرب الموعد وتحديد اللقاء في محاولة للوصول إلى منفعة ذات طبيعة جنسية”[14].
2-2- مظاهر التحرش الجنسي:
تتعدّدُ مظاهر التحرش الجنسي، وأشهرها:
أولا: التحرش اللفظي، الذي يتم بأشكال متعددة، مثل التعليقات والدعابات وعبارات الغزل، والمعاكسة عبر وسائل الاتصال والتواصل. كما يمكن أن يتم بالهمس والقصص ذات المحتوى الجنسي أو أصوات ذات طبيعة جنسية. ويعد هذا شكلا من أشكال العنف ضد الضحية، لكنه ليس عنفا جسديا بالرغم من ارتباطه بموضوع الجنس[15].
ثانيا: التحرش غير اللفظي، ويتم بالإيماءات والإشارات والحركات غير الكلام، حيثُ يأتي الجاني بتلميحات غير لفظية، كالنظرات الفاحصة للجسد، والابتسامات وإيماءات بالوجه كالغمز والبصبصة أو لحس الشفتين، أو مطاردة الضحية في الطريق (…) وغيرها[16].
وتجدرُ الإشارة إلى أنّ هذه السلوكات اللفظية وغير اللفظية، تصبحُ تحرشا جنسيا في حالة عدم ترحيب الضحية بذلك. أمّا في حالة الترحيب، فهذا يعني أننا إزاء علاقة رومانسية، لا تندرج بشكل من الأشكال في صنف التحرش الجنسي.
ثالثا: التحرش الجسدي، ويعتمدُ الملامسة الجسدية المتعمدة من قبل الجاني؛ مثل الإمساك ببعض أجزاء جسد الضحية أو احتضانها أو تقبيلها أو وضع يده على الأماكن الحساسة من جسدها، أو قرصها أو الاحتكاك بها في بعض المواقف كالزحام أو غيرها، كما يتم بالاستعراض الجنسي، حين يعمد الجاني إلى استعراض أعضائه الجنسية على مرأى من الضحية أو الإشارة إليها، أو إكراه الضحية على العري واستعراض بعض أعضائها الجنسية مع المداعبة والملاطفة.
رابعا: التحرش المساوماتي، الذي ينفذ إمّا عن طريق المقايضة، أو منح شيء مقابل شيء آخر.وذلك من خلال استغلال السلطة تجاه شخص آخر أقل قوة من أجل فرض هيمنة جنسية عليه، وغالبا ما يتم هذا في مجال العمل. أو عن طريق التحرش بالتخويف، حيث يتم تخويف الضحية بزوال منفعة أو وظيفة أو ترقية أو ما شابه ذلك.
2-3- أسباب التحرش الجنسي:
للتحرش الجنسي أسباب عديدة، يمكنُ تقسيمها إلى ثلاثة مجالات رئيسة، هي على الشكل الآتي:
أ- الأسباب الاقتصادية والاجتماعية:
وتتمثل الأسباب الاقتصادية؛ في تدهور الوضع الاقتصادي ومستوى المعيشة، حيث ارتفاع معدلات البطالة والفقر تحُولُ دون القدرة على الزواج، مما يدفع البعض من الشباب إلى إشباع رغباتهم الجنسية خارج مؤسسة الزواج. علاوة على زيادة عدد السكّان، وبالمقابل ضعف الخدمات. لكن هذا السبب الأخير، قد لا يكون سببا مقنعا في تفشي هذه الظاهرة، مادام المتحرشون ذوو وظائف محترمة. ومستوى تعليمي لائق، وقد يكون أغلبهم متزوجين[17].
أما الأسباب الاجتماعية، فمنها ما يرجع إلى ثقافة المجتمع التي تميزُ الذكر عن الأنثى، لتمنح للمجتمع الذكوري الحق في الهيمنة والتسلّط وممارسة العنف عليها منذ الصغر، وبالمقابل تعويدها على تقبلّه والرضوخ إليه، ولا ذنب لها في ذلك، سوى أنها ولدت أنثى[18]. ومن ثمة غياب فكرة المسؤولية والواجب الاجتماعي. ومنها ما يرجع إلى انتشار وسائل الإعلام بما فيها القنوات الفضائية والمواقع الإباحية، حيث إنّ الغزو الثقافي الغربي الذي اجتاح البيوت، فسح المجال للتحرش الجنسي خاصة بين المحارم. ومنها ما يرجع إلى الأسرة، بعدم توافر تربية أسرية سليمة، خاصة ممارسة العنف الذي يجعل الطفل يستقوي على من هو أضعف منه وهي المرأة[19]. ومنها ما يرجع إلى الرجل في علاقته بالنساء، خاصة اعتباره المرأة مصدر متعة فقط. ومنها ما يرجع إلى المرأة نفسها، التي قد تلعب دورا فعالا في هذا الأمر، من خلال بعض السلوكات مثل اللباس، وطريقة الكلام، واللطف، والتسامح حيث تقلل في بعض الأحيان من شأن الحادثة أو غيرها.
ب- الأسباب التربوية والنفسية:
ترتبط الأسباب التربوية بنوعية التربية السائدة في الأسرة أوالمدرسة. فداخل الأسرة مثلا يتم تجاهُل الطفل أثناء ممارسة الحق الزوجي، بدعوى أنه لا يفهم وهو ادعاء خاطئ. وبعض السلوكات الخاطئة بين المحارم. علاوة على ضعف التربية الجنسية، سواء في المناهج التربوية، أو داخل الأسرة نفسها، فأغلبية الوالدين لا يعملون على تربية أبنائهم جنسيا، أو يرجع ذلك، إلى عدم معرفتهم بكيفية تربيتهم تربية جنسية[20].
أمّا الأسباب النفسية؛ فتتضافر فيها ثلاثة عناصر وهي: الرجل والمرأة والمكان. فعلى مستوى المُتحرّش قد يكون شخصا عاديا، لكن الظروف دفعته لهذا الفعل. وإما أن يكون شخصية سادية أو استعراضية/ تحكمية أو تعاني من افتقاد العاطفة والحنان منذ الصغر. وبخصوص المكان، فالمرأة وتوجدها في بعض الأماكن المظلمة أو المغلقة أو البعيدة، قد يكون سببا في اقتراف هذا الفعل من قبل الآخر.[21]
ج-الأسباب القانونية والدينية:
هناك العديد من الأسباب القانونية المسْهِمَة في تشجيع ظاهرة التحرش الجنسي، ومنها غياب أو نقص الحماية القانونية للمتحرّش بهم بناء على نصوص زجرية رادعة، مع انعدام التوعية بصدور مثل هذه النصوص المجَرِّمَة لهذا الفعل. علاوة على انعدام الأمن في الشوارع والأحياء وأمام بعض المؤسسات. مع العلم أنّ الضحايا أنفسهم يُسْهِمون في ذلك، بإحجامهم عن التبليغ، نظرا لصعوبة الإثبات في كثير من الأحيان، مما يجعل الضحية تخسر القضية نفسيا قبل أن تخسرها قضائيّاً.
وبخصوص الدينية منها، فترتبط ارتباطا وثيقا بمنظومة القيم داخل المجتمع، حيث ضَعفُ الوزاع الديني، والابتعاد عن آدابه وتعاليمه وقيمه أدى، بشكل أو بآخر، إلى السعي الحثيث وراء الماديات وإشباع الرغبات بطرق مشروعة أو غير مشروعة.
3- التحرش الجنسي في المجتمع المغربي:
3-1- العنف القائم على النوع الاجتماعي/ الإطار القانوني:
يُشكِّلُ العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي ظاهرة عالمية ذات أبعاد وبائية. وقد لاحظت منظمة الصحة العالمية أن هذه الظاهرة” تُشكِّلُ خطراً على صحة المرأة، وتحدُّ من فُرَصِ مشاركتها في المجتمع. كما تتسبّبُ بمعاناة إنسانية كبرى”[22]، سواء الصحية البدنية منها، أو الجنسية أو النفسية، أو على مستوى نمو الشخص أو هويته.
وقد عرّفت اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة، العنف القائم على النوع الاجتماعي أنه “العنف الموجَّه ضد المرأة بسبب كونها امرأة أو العنف الذي يمَسُّ المرأة على نحو جائر”[23]. كما توسعت في أنواعه، حيثُ يتخذُ “أشكالا متعدّدة، بما فيها الأفعال أو أوجه التقصير التي يُقْصَدُ منها أو يُحْتَمَلُ أن تُسبّبَ الوفاة أو الضرر البدني أو الجنسي أو النفسي أو الاقتصادي أو المعاناة للمرأة، أو أن يُفْضيَ إلى ذلك، والتهديد بتلك الأفعال والتحرّش والإكراه والحرمان التعسُّفِي منَ الحُرية”[24].
وعلى الرّغم من غياب وثيقة دولية تتناولُ قضايا العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل خاص، فمن وجهة النظر الحقوقية والحفاظ على الحريات الأساس، جعلها تلقى انتشارا، باعتبارها قضية آنية، وإن كانت ذات طبيعة غير مشروعة كمبدأ من مبادئ القانون الدولي العرفي”[25]. وبذلك، تُقرُّ بها اليوم عدّة منظمات ولجن وهيئات وخبراء مستقلين. ومع ذلك، فمسألة الوصول إلى العدالة في قضايا هذه الظاهرة يقوم على ثلاثة مبادئ أساس من قانون حقوق الإنسان، وهي: الحقُّ في عدم الخضوع للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية أو المهينة. والحقُّ في عدم الخضوع للتمييز القائم على النوع الاجتماعي. والحقُّ في الجبر والانتصاف عند تعرض الفرد لانتهاك حقوق الإنسان الخاصة به”[26].
وعلى مستوى المجتمع المغربي، يعدُّ العنف ضد الفتيات والنساء ظاهرة متفشية على نطاق واسع. استناداً إلى البحث الأخير الذي أنجزته المندوبية السامية للتخطيط: “تعرّضت 7,6 مليون امرأة من أصل 13,4 مليون، من المتراوحة أعمارهم بين 15 و74 سنة، في 2019، لشكل واحد على الأقل من أشكال العنف (…) أي ما يمثّلُ نسبة 57% من النساء. ويعتبر فضاء البيت الأسري عموما، أكبر فضاء يشهدُ العنف، بمعدّل انتشار يبلُغُ 52%، وهو ما يتمثّلُ6,1 مليون امرأة”[27].
أمّا باقي الفضاءات الأُخْرى، فهي على الشكل الآتي: ففي الفضاءات العمومية، فتصل نسبة العنف إلى 13% (أي ما يعادلُ 1,7 مليون امرأة). وفي فضاءات التربية والتكوين 22% 5 (أي ما يمثلُ مليوني (2) تلميذة وطالبة). وفي أماكن العمل 15% (أي ما يعادلُ 3,8 مليون امرأة). بينما على مستوى شبكات التواصل الاجتماعي فيقدر بنسبة 14% (أي ما يُعادلُ 1,5 مليون امرأة)[28].
3-2- التحرش الجنسي والقانون: 13. 103:
تبعاً للأشكال المتنوعة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، وفي نطاق الجهود المبذولة من قبل الدولة المغربية، بُغية الحد من تفشي هذه الظاهرة، وهي جهود ومبادرات تستحق التنويه، تم سَنُّ القانون (103.13) المتعلق بمحاربة العنف ضدّ النساء، الذي علّقتْ عليه اللجنة الدولية للحقوقيين بقولها: “أثار القانون الجدل بشكل واسع ولاقى انتقاداتٍ من مُخْتَلِفِ الأطياف السياسية. ويمكنُ القول إنّ المدة التي استغرقها إقرار القانون والعدد القليل من أعضاء البرلمان الذين حضروا جلسة التصويت على القانون يعكسان مدى حساسية قضية حقوق المرأة في المغرب. يتضمّنُ القانون لائحة غير شاملة من تعريفات المفاهيم المرتبطة بالعنف ضد النساء، ويطرحُ بعض التدابير الوقائية بما في ذلك عقوبات أقسى على مرتكبي العنف الجنسي والعنف القائم على النوع الاجتماعي”[29].
قبل التطرُّق إلى مناقشة هذا القانون في المادة5، يمكن أن نقف تحديداً عند بعض الإحصائيات الخاصة بالتحرش الجنسي بالمغرب، تمثيلا لا حصراً، وَفْقَ مَعطيات رئاسة النيابة العامة، برسم سنة 2019.
التحرش الجنسي | عدد القضايا | عدد المتابعين | ||||
ذكور رشداء | ذكور أحداث | إناث راشدات | إناث أحداث | المجموع | ||
التحرش الجنسي في فضاء العمل | 26 | 26 | 0 | 1 | 0 | 27 |
التحرش الجنسي في الفضاء العام | 499 | 512 | 7 | 6 | 0 | 525 |
التحرش الجنسي بواسطة رسائل مكتوبة أو إلكترونية | 80 | 79 | 1 | 0 | 0 | 80 |
المجموع والنسية المئوية | 605 | 617 | 08 | 07 | 00 | 632 |
625 | 07 | |||||
98,89% | 1,10% | 100% |
الجدول (1): الجنايات والجنح المرتكبة ضد المرأة برسم سنة 2019
الجرائم | أب | أم | ابن | أخ | أخت | زوج الضحية | الخادم | رب العمل | المدرس | الغير | المجموع |
التحرش الجنسي في فضاء العمل | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 6 | 0 | 21 | 27 |
التحرش الجنسي في الفضاء العام | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 525 | 525 |
التحرش الجنسي بواسطة رسائل مكتوبة أو إلكترونية | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 80 | 80 |
المجموع | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 0 | 6 | 0 | 626 | 632 |
النسبة المئوية | 0% | 0% | 0% | 0% | 0% | 0% | 0% | 0,94% | 0% | 99,05% | 100% |
الجدول (2): المتابعون في الجنايات والجنح المرتكبة ضد المرأة حسب نوع القرابة. برسم سنة 2019.
يتبدّى لنا من خلال الجدول (1). أنّ مجموع عدد المتابعين في قضايا التحرش الجنسي يصلُ إلى 632 مُتَابَع. وبالنظر إلى نوع الجنس، فنجدُ عدد الذكور يفوق بكثير عدد الإناث، حيث يصل عددهم إلى 625 (أي بنسبة 98%). بينما عدد الإناث 07 (أي بنسبة 1,10%). وهذا راجع إلى معضلة التمييز بين الجنسين التي لازال يَعْمِدُ إليها المجتمع المغربي في الكثير من الأوساط، حيث يعد الذكر/ الرجل صاحب سلطة في مقابل إضعاف الجنس الأنثوي ووضعه في وضعية الإذعان والتبعية دون مبرر عقلي أو منطقي أو ظرفي متميز.
أمّا بخصوص الجدول (2). الذي يحاول أن يفصّل في قضايا التحرُّش الجنسي المرتكبة ضد المرأة حسب نوع القرابة، فإنه تم التوصل إلى أن عدد المتحرشين الأغيار هو 626 (أي بنسبة 99,05%). وأرباب العمل عددهم6 (أي بنسبة 0,94%). أمّا باقي الأصناف فغير واردة ضمن هذه القضايا.
3-3- القانون 103.13- الفصل: 503. حلّل وناقش:
عَمَدَتْ السلطات العمومية في المجتمع المغربي، على إثْرِ الوضع المرتبط بقضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي بشكل عام. وجرائم التحرش الجنسي بشكل خاص، إلى عدّة استراتيجيات وبرامج ومخطّطات متتالية لمحاربة العنف ضد النساء، منذُ سنة 2004. وأهمها القانون الإطار رقم 103.13. المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء، الذي دخل حيز التنفيذ منذ سنة 2018[30]، كما أشارت إلى ذلك المادة 17 في الباب الخامس المتعلق بالتدابير والمبادرات للوقاية من العنف.
وتجدرُ الإشارة، إلى أنّ هذا القانون، فيما يتعلق بالفصل 503 من القانون الجنائي أنه يُعَرِّفُ التحرش الجنسي على الشكل الآتي:
“الإمعان في مضايقة الغير في الفضاءات العمومية أو غيرها بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية؛ بواسطة رسائل مكتوبة أو هاتفية أو إلكترونية أو تسجيلات أو صور ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية”
ويعني هذا، أنّ التحرش الجنسي أصبح جريمة قائمة الذات، حيثُ تمَّ تجاوز التعريف التقليدي الذي يربطُ التحرش الجنسي بالرئيس في العمل، و”الذي يشترط وجود علاقة بين الرئيس والمرؤوس أو سلطة بين الضحية ومرتكب الجريمة ضمن مكان العمل”[31]. بل أصبح التعريف يضمُّ الفضاءات العمومية وغيرها في نطاق التجديد والتحسين الذي عرفه قانون العنف القائم على النوع الاجتماعي.
تبعا لهذا، يشيرُ “الفصل (503.1.1)- يعتبر مرتكبا لجريمة التحرش الجنسي ويُعاقبُ بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر وغرامة من 2000 إلى 10.000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبيتين كل من أمعن في مضايقة الغير في الحالات التالية:
1-في الفضاءات العمومية أو غيرها، بأفعال أو أقوال أو إشارات ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية.
2-بواسطة رسائل مكتوبة او هاتفية أو إلكترونية أو تسجيلات أو صور ذات طبيعة جنسية أو لأغراض جنسية.
تُضاعفُ العقوبة إذا كان مرتكب الفعل زميلا في العمل أو من الأشخاص المكلفين بحفظ النّظام والأمن في الفضاءات العمومية أو غيرها”[32]
كما يُشيرُ الفصل (503.2.1)- يُعاقبُ بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات وغرامة من 5000 إلى 50000 درهم، إذا ارتكب التحرش الجنسي من طرف أحد الأصول أو المحارم أو من له ولاية أو سلطة على الضحية أو مكلفا برعايته أو كافلا له، أو إذا كان الضحية قاصرا”[33].
على الرغم من التقدّم الملحوظ بخصوص قانون محاربة العنف ضد النساء، أو بتوسيع نطاق جريمة التحرش الجنسي، سواء على مستوى الفضاءات العمومية أو غيرها. أو على مستوى الغير الذي يرتبط بالضحية من جهة القرابة أو العمل. فإنّ الأمر لازال تنتابُهُ نواقص. وذلك مثل إهمال القانون 103.13 للتعريف ب” التميييز” بما يتناسبُ مع المادة 1 من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. فضلا عن المخاوف التي يطرحا القانون الجديد الخاصة بجريمة التحرش الجنسي، وكأنه يتطلبُ لضمان العقوبة وقوع حوادث متكرّرة، وهو ما تعكسه كلمة “إمعان” في الممارسة، وبذلك، يستثني حوادث التحرش المنعزلة. كما أنه التعريف، في حد ذاته، لا يُغطِّي العناصر الأساس لهذه الجريمة.
وهذا ما لاحظته اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب. من خلال بحثها في الأبعاد المختلفة للتحرش الجنسي، وذلك مثل النظر في الهجمات الشفهية التي تُسْتخدَمُ ضد الضحية مثل (عاهر/ة) أو (مومس)؛ فهي ألفاظ لا تستخدمُ للذكور، والمقصود منها الحطُّ من قدر المرأة وتجريدها من نزاهتها، وكأنها ترفُضُ الالتزام بالقيم الدينية والمعايير الاجتماعية التقليدية.
ويمكن أن يتم تجاوز هذه الهجمات الشفهية نحو الهجمات البدنية التي تكون خاصة بجسم المرأة في حد ذاته، مثل تحسس أماكن في الصدر، ولمس ومحاولة لمس “أجزاء خاصة وحساسة”. “وليس هناك أدنى شك في أن الضحايا كانوا مستهدفين بهذه الطريقة بسبب نوع جنسهم”[34]. كما أشارت اللجنة إلى أهمية التعامل مع التحرش بشكل منفصل، بما أنّه قد لا ينطوي على أفعال ذات طبيعة جنسية.
هذا، بالإضافة إلى عدم الاهتمام بقضية “المطاردة”، هذا التصرف السيء الذي يُرتكبُ كمسار سلوك يؤثّرُ سلبا على حرية الضحية، ويُسبِّبُ لها الخوف والحزن. وقد أشار تقرير “العنف ضد المرأة” لوكالة الحقوق الأساسية التابعة للاتحاد الأوروبي، أنّ المطاردة تشملُ الإفعال الآتية: “إرسال رسائل إلكترونية أو نصية أو بطاقات جارحة. القيام باتصالات هاتفية تهجمية، تهديدية أو صامتة. القيام بتعليقاتٍ جارحة حول الضحية على الإنترنيت. مشاركة صور فتوغرافية أو تسجيلات فيديو حميمة عن الضحية من دون إذن منها. التسكع/ الانتظار قبالة منزل الضحية أو مدرستها أو مكان عملها. ملاحقة الضحية أثناء تنقلها من مكان إلى آخر. التدخُّلُ بممتلكات الضحية أو تدميرها”[35].
4- التحرش الجنسي في علم النفس الاجتماعي:
في حقيقة الأمر، يصعُبُ اعتماد المقاربة القانونية وحدَها، بخصوص ظاهرة التجرش الجنسي في المجتمع المغربي. وإن كان للقانون دوره الفعال في تربية الأجيال القادمة على القيم الأخلاقية والدينية والمجتمعية، ولو عن طريق الزجر والعقاب. فإنه لا بُدَّ من الاستعانة بمقاربات أخرى، تلعب دور الوقاية من الوقوع في هذه الجرمية أو العلاج. ومن أهم هذه المقاربات علم النفس الاجتماعي، الذي سنطرق من خلاله إلى تحليل شخصية المتحرش من وجهة نظر علم النفس، ثم عواقب وآثار هذه الظاهرة على الضحية المتحرّشِ بها.
4-1- شخصية المُتحرِّش والميول للانحراف:
يُعدُّ التحرّش الجنسي ظاهرة مرضية نفس اجتماعية، يعاني منها المجتمع المغربي، مثل باقي بلدان العالم. وبذلك، فالشخصية التي تقوم بهذا السلوك المنحرف، لا غرو أنّها شخصية سيكوباتية psychopatic personality تُعاني من اضطراب نفسي سلوكي، يندرجُ ضمن جملة من اضطرابات الشخصية.
وقد حدّدَ الدكتور “أحمد هارون”؛ مستشار العلاج النفسي ورئيس الأكاديمية العربية للعلوم النفسية AAPS أربعة مظاهر شاذة في الشخص المصاب به:
1-استجابات مضادة للمجتمع المحيط به.
2-انحرافات جنسية وسلوك جنسي مَرَضِي.
3-ردود فعل عدوانية او سلوكات عدوانية.
4-إدمان المشروبات الكحولية والمخدرات.[36]
وإذا كانت أسباب هذا الاضطراب السلوكي متعدّدة، فإنّ الأمر يعود، بالأساس، إلى مجال التربية والتنشئة الاجتماعية. على اعتبار أنه سلوك لا يعكس كبتا جنسيا، قدر ما يعكس كونه عنفا اجتماعيا إزاء الفئة الهشّة والضعيفة. فمن وجهة نظر أخرى، قد لا يكونُ المتحرش مريضا نفسيان بل يعدُّ شخصا مدركا لأفعاله وسلوكاته، لكنه يعاني خللا ما، يدفعه إلى التصرُّف بعنف تجاه الآخرين، وهذا لا يعدو أن يكون نتيجة التربية الاجتماعية، سواء في الأسرة أو المدرسة أو الشارع، أو حتى وسائل الإعلام في بعض الأحيان، التي تذهب مذهب التمييز بين الجنسين استناداً إلى الفهم الخاطئ للدين، علاوة على التقاليد والعادات التي ترسّخَتْ في المجتمعات، مثل المجتمع المغربي.
وتتضافرُ إلى جانب انعدام الضمير والمبادئ والتربية الصحيحة، عوامل أخرى بيولوجية مثل ارتفاع معدلات التلوث البيئي. واجتماعية؛ مثل التفكك الأسري والقمع والحرمان من الحاجات الأساس. بل وأخرى سياسية؛ حيثُ تتحمَّلُ الدولة والمجتمع السياسي مسؤولية تفشي الظاهرة، عوض مسؤولية المرأة لوحدها. ومما يثبتُ هذا؛ أشارت الكاتبة الصحفية “هناء مكاوي” في مقال لها أن هناك دراسة تُخْلِي مسؤولية المرأة من هذا الأمر، “حيثُ نسبة 75,7% ممن خضعن للدراسة كُنَّ مرتديات ملابس محتشمة ولا يضعن مساحيق تجميل وقت تعرضهنَّ للتحرّش، مقابل 2,1% كُنَّ مرتديات ملابس تكشف أجسادهنَّ ويضعن مساحيق تجميل”[37].
ومن وجهة نظر التحليل نفس-اجتماعية، هُناك من يذهبُ بعيداً في إدانة المتحرش، وتشريح شخصيته العدوانية، فهو تلك الشخصية “المضادة للمجتمع”[38]. بمعنى أن الأمر لا يتوقف عند حدود التحرش الجنسي، بل قد يُمارسُ، أيضا، السرقة والاختلاس، وحتى القتل إذا ما توفرت له الظروف الملائمة، وسنحت له الفرضة بذلك.
إنه ما يذهب إليه “علم الإجرام” وَفق المفهوم الحديث لشخصية المجرم. فهي شخصية تتمتَّعُ بعقلية لا اجتماعية، أي غير قادرة على التكيف اجتماعيا. ويقسم هذا العلم المجرمين إلى ثلاثة أنواع؛ الجرم العادي، الذي يتمتع بالأهلية الجنائية، ويكونُ مسؤولا عن أفعاله وسلوكاته. والمجرم المجنون، المصاب بأحد الأمراض العقلية، لذلك غير مسؤول عن أفعاله وتَعْدُمُ لديه الأهلية الجنائية. والمجرم الشاذ، وهو شخص مُصاب باضطراب نفسي، لكن لا تَعْدُمُ لديه الأهلية الجنائية، لأنه مدرك لأفعاله ومميز لسلوكاته.
وإذا كان هذا المدلول الأخير يتوافق مع المتحرش، إلى حد ما، فإنه يصطدمُ مع مبدأ الشرعية، واحترام الحريات الفردية، حيثُ يصعُبُ تدخُّلُ المشرّع في مثل هذه الحالات التي تنْذِرُ بالجريمة، نتيجة تمتع الشخص بعقلية لا اجتماعية.
4-2- عواقب وآثار التحرش على الضحيّة:
تبعا لما سبق، ومن وجهة نظر علم النفس الاجتماعي، فللتحرش الجنسي عواقب وآثار على الضحية، حيثُ أشار بعض الإخصائيين إلى أنّ أهم ضرر يحدث لدى الضحية، جرّاء تعرضها للتحرش الجنسي، هو ما يُعرفُ ب”التروما” وتعني في علم النفس: “الصدمة النفسية الشديدة التي تحدث بسبب التعرُّض لحادث مُفاجئ وأليم، يسيطرُ على الشخص، ويعجزُ عن كبحه، مما يولّدُ الخوف والرعب الذي يسيطرُ على تفكيره وردة فعله”[39].وبذلك، يتسبّبُ هذا في ظهور العديد من الاضطرابات العاطفية مثل القلق والتوتر والخوف. بالإضافة إلى أعراض اخرى، قد تستمر لفترة طويلة وربما لسنوات.
وتختلفُ هذه التأثيرات حسب شخصية المرأة أو الفتاة المتحرش بها، فقد أشارت الدراسات إلى أن النساء والفتيات اللائي يستطعن مواجهة مثل هذه المواقف، يكون وطء الحدث عليهن أقل ممن لا يقدرن على مواجهته. وتذهب منظمة الأمم المتحدة للمرأة إلى أن 80% ممن تتعرّضن للتحرش الجنسين لا يُفصحْنَ عن الأمر، ولا يستطعن أخذ أي إجراء ضد المعتدي.
فضلا عن الصدمة النفسية، فالأمر قد يتجاوزها نحو إحداث مضاعفات بدنية، أهمها “الأجهاد الحاد”.وتوضح الدكتورة “نيكيشيا هاموند Nekeshia Hammond” هذا الأمر بقولها: “أحيانا ما يؤدي التحرش الجنسي إلى حدوث الصدمة للمريض، تجعلُ من الصعب أن يتعامل معها، ومن ثَمَّ يبدأ في الدخول في حالة إنكار أنه مصاب بالاكتئاب أو الاضطراب، وهو ما يؤدِّي إلى الأعراض الجسدية، التي تظهر على شكل آلام في العضلات وصداع أو الأمراض المزمنة؛ كارتفاع ضغط الدم، ومشكلات السكر في الدم، فضلاً عن أنه، على المدى الطويل، يمكن أن يؤدي إلى مشاكل في القلب”[40].
· تنوير خاص:
تجدر الإشارة أخيراً، إلى القول: “إنه ليس بالقانون وحده تستقيمُ الأمم”. مع العلم أن المغرب بسنّه لمثل هذه القوانين الجادة والجريئة، قد خطا خطوات إلى الأمام، نحو المجتمعات المتحضرة. لكن لابد من إعادة النظر في بعض نقاطه، مثل العناصر الأساس للظاهرة، وعناصر الإثبات، والاهتمام بعنصري “التمييز” و”المطاردة”.
ومع ذلك، لابد من اعتماد مقاربات أخرى وقائية وعلاجية على حد سواء، خاصة من وجهة نظر علم النفس الاجتماعي، من خلال الاهتمام بالتربية والتنشئة الاجتماعية الرصينة والصحيحة، على مستوى الإعلام والمدارس والجامعات ودور الشباب ومقرات الأحزاب السياسية وغيرها. في أفق بناء مجتمع يدين بالحرية والديمقراطية، واحترام الإنسان في حد ذاته، دون أي تمييز كيفما كان نوعه.
- هوامش:
[1]– Klein, R.G&Edgar, B. The Dawn of Human culture (Wiley2002)
[2]– McBrearty, S&Brooks,A. S. J.Hum; Evol.39. 453-563 (2000)
[3]– مجموعة من الكتّاب؛ نظرية الثقافة. ترجمة: د. علي سيد الصّاوي. عالم المعرفة. عدد229. يوليوز 1997. ص7-8.
[4]– ابن منظور؛ لسان العرب. ج9. مادة (ع.ن.ف). ص429.
[5]– Marie- christine poujouly (violence) dans les concepts en sciences infirmières (2012). P302-304
[6]– فوزي أحمد دريدي؛ العنف لدى التّلاميذ في المدارس الثانوية الجزائرية. الرياض. ط1. 2007. ص34-35- (بتصرُّف).
[7]– UNFRA؛ إدارة برنامج العنف القائم على النوع الاجتماعي في حالة الطوارئ (الدليل المصاحب للتعلم الإلكتروني). د.ت. ص2.
[8]– المبادئ التوجيهية للجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات بشأن التدخلات في العنف القائم على النوع الاجتماعي في الأوضاع الإنسانية (2005). إن هذا التعريف الذي عمَدْنا إليه، أصبح مُعمّماً بين وكالات الأمم المتحدّة وغالبية المنظمات غير الحكومية الدولية وحركة الهلال الأحمر/ الصليب الأمر ومعظم المنظمات الدولية الأخرى العاملة في مجال الاستجابة للطوارئ (اُنظر. ص8).
[9]– تقرير الأمين العام؛ دراسة معمقة بشأن جميع أشكال العنف ضد المرأة. 2006. 6. 1. A/C1/&122/Add. يوليو/ تموز 2006. (اُنظر نفسه. ص10).
[10]-ابن منظور؛ لسان العرب. مادة (ح. ر. ش).
[11]– نفسه. مادة (ج.ن.س).
[12]– مجمّع اللغة العربية؛ المعجم الوسيط. ج1. مادة (ج. ن.س) ص140.
[13]– Ayrna Dawson, Predicting the Quality of law: Single Versus Multiple Remediies in Sexual Harssment cases Sociology. Vol76.2005.p709.نقلا عن د. أنيس السيد المحلاوي؛ جريمة التحرّش الجنسي في القانون الجنائي والفقه الإسلامي. مجلة كلية الشريعة والقانون. عدد 34 ج4. خريف 2019. ص293.
[14]– شبل إسماعيل عطية؛ نظام المكافحة الشاملة للتحرش الجنسي في الشريعة الإسلامية مقارنا بالمكافحة القانونية. مجلة البحوث القانونية والاقتصادية. عدد65. 2018 ص928.
[15]– حامد عبد السلام زهران؛ علم النفس الاجتماعي. عالم الكتب. ط5. 1984. ص9-10 (بتصرّف).
[16]– اُنظر رقية الخياري؛ التحرش الجنسي في المغرب-دراسة سوسيولوجية قانونية- دار الفنك. المغرب.د.ط. د.ت. ص32.
[17]– بن حليمة حسنية؛ جريمة التحرش الجنسي في التشريع الجزائري- مذكرة مكملة لمقتضيات نيل شهادة الماستر- جامعة محمد بوضياف. 2014-2015. ص38.
[18]– رشاد علي عبد العزيز موسى؛ تساؤلات حول التحرش الجنسي والاغتصاب الجنسي والعطر الجاذبية الجنسية. مطبعة أنباء وهبة حسان. القاهرة. ط1. 2009. ص52.
[19]– إكرام مختاري؛ جريمة التحرش الجنسي من منظور القانون الجنائي المغربي “دراسة مقارنة”. مجلة المنار للدراسات القانونية والإدارية. عدد9. 2015. ص252.
[20]– بن حليمة حسنية؛ سابق. ص35.
[21]-نفسه. ص36.
[22]– منظمة الصحة العالمية؛ “التقديرات الإقليمية والعالمية للعنف الموجّه نحو المرأة/ معدّلات الانتشار والتاثيرات الصحية لعنف الشريك الحميم والعنف الجنسي من غير شركاء” جنيف. 2013. ص35.
[23]– اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة “التوصية العامة رقم 19: العنف ضد المرأة” وثيقة الأمم المتحدة رقم 38/47/A (1992). الفقرة 66.
[24]– اللجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة “التوصية العامة رقم 35 بشأن العنف الجنساني ضد المرأة، الصادرة تحديثا للتوصية العامة رقم 19. وثيقة الأمم المتحدة رقم 35. CEDAW/C/GC(2017). الفقرة 14.
[25]– نفسه.
[26]– اللجنة الدولية للحقوقيين؛ معيقات ولوج النساء والفتيات إلى العدالة في قضايا العنف المبني على النوع الاجتماعي في المغرب. جنيف. 2019. ص5-6.
[27]-المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي؛ القضاء على العنف ضد الفتيات والنساء: استعجال وطني. إحالة ذاتية. رقم 00/2020. ص9.
[28]-نفسه. ص9. يمكن العودة إلى التقرير السنوي الأول للجنة الوطنية للتكفل بالنساء ضحايا العنف. 2020. للاطلاع على تفاصيل الإحصائيات المتعلقة بالعنف ضد النساء. الباب الثاني:4- معطيات إحصائية حول العنف ضد النساء. خلال سنة 2019-2020.
[29]– اللجنة الدولية للحقوقيين. سابق. ص6-7.
[30]– اُنظر ظهير شريف رقم 1.18.19 صادر في 5 جمادى الآخرة 1439 (22 فبراير 2018) بتنفيذ القانون رقم 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد النساء. صادر بالجريدة الرسمية عدد6655. بتاريخ 23 جمادى الآخرة 1439 (12 مارس2018) ص1449.
[31]– القانون رقم 103.13. ص17.
[32]– المملكة المغربية؛ وزارة العدل. مديرية التشريع؛ محابة العنف ضد النساء. 2018. ص7.
[33]– نفسه. ص8.
[34]-اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب؛ “المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وانتراييس ضد مصر”. البلاغ رقم 06/323 (أكتوبر 2013) الفقرتان 143-144.
[35]– وكالة الحقوق الأساسية التابعة للاتحاد الأوروبي؛ تقيري “العنف ضد المرأة: مسح شامل للاتحاد الأوروبي. النتائج الرئيسية (لوكسمبورغ: مكتب منشورات الاتحاد الأوروبي). 2014. ص93.
[36]– أحمد هارون؛ التحرش الجنسي في ميزان علم النفس. على الموقع: www.http//:drahmedharoun.com. اطلع عليه بتاريخ 07 اكتوبر 2021. على الساعة: 22:14.
[37]– هناء مكاوي؛ التحرش الجنسي…اضطراب سلوكي يجعمه خلل مجتمعي. 19 ديسمبر 2016. على الرابط: www.http//:scientificamerican.com. اطلع عليه بتاريخ 11 أكتوبر 2021. على الساعة: 21:10.
[38]– اُنظر محمود حسن؛ التحليل النفسي لشخصية المتحرش. على موقع: www. Youm7.com. الخميس 26 أكتوبر 2017/03:16. اطلع عليه بتاريخ 11 أكتوبر 2021. على الساعة: 21:55. الرابط: gooole.com/amp/5/m.youm7.
[39]– ليلى رجب؛ كيف يؤثر التعرض للتحرش الجنسي نفسيا على التفيات؟ طبيبة توضح. 10 يوليه 2020. على الرابط www.http//: elcomsolto.com/psychiatric/ps… اطلع عليه بتاريخ: 15 أكتوبر 2021. على الساعة: 21:40.
[40]– سارة النواوي؛ ليست الجوانب النفسية فقط- تعرف على الآثار الصحية الخفية للتحرش الجنسي. 4 يوليه 2020. على الوقع www.shorouknews.com اطلع عليه بتاريخ 15 أكتوبر 2021. على الساعة: 22:30.