يعد التناص القرآني سمة بارزة تسم التجربة الشعرية المفدية، إذ لا تكاد قصيدة تخلو من تناص قرآني، وذلك يظهر بشكل واضح لدى القارئ سواء من خلال عتبات الدواوين والنصوص أو من خلال المعجم الذي يوظفه الشاعر والذي يكون دوما مفعما بألفاظ القرآن، أو من خلال لغة القرآن الكريم وأسلوبه وتراكيبه ودلالاته .
فالشاعر أحمد مفدي يستحضر القصص القرآني في كثير من قصائده، مستلهما إياها بطرق شتى، حيث نجده يتمثل موقف النبي موسى عليه السلام لما آنس النار، وقصدها، إذ يقول في المقطع التالي من قصيدة ” اخلع نعليك بوادي الشعر”(ديوان صهيل العشق 1986):
اخلع نعليك فأنت في واد قدس فيه القول
طوى
أو قاب قوسين من الإحراق
واغسل بالنور القدمين
وفي قصيدته” أطلال حمص وحوارية الجبلين” ( ديوان تأملات في تراتيل الناقة) يقول:
يا جبل الشيخ…!
أنت الآن بحضرة أقداس الصيد من اللهب
اخلع ما في القلب من الأوثان
وخذ بيمينك منسأة …!
مزقْ نعلك بالوادي …
قدست النعل وأشلاء الوطن…!
هنا، في هذين المقطعين، قام الشاعر بخفض صوت الأنا الموسوي النبي، تلك الأنا المطالبة برؤية النار، فاكتفى بالصوت / النداء الإلهي الجليل الذي جاء على شكل أمر من الله لنبيه ( اخلع نعليك فأنت – اغسل). وبهذا فالشاعر يمتص حدثا من قصة موسى عليه السلام تمثل في قوله تعالى:” إِذْ رَأَىٰ نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَىٰ (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ۖ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) “( سورة طه الآية 12)، فالنص القرآني حاضر من خلال المعجم القرآني ( الجبل – الخلع – اليمين – المنسأة- النعل – الوادي) لكنه حاضر بدلالات جديدة اقتضاها السياق الجديد(عبد الرزاق الصالحي، الاستمداد من التراث في شعر أحمد مفدي، مقال منشور ضمن الكتاب الجماعي” الوجود عشقا وشعرا”، إعداد وتقديم .د مصطفى شميعة، مطبعة بلال، ط.1، 2019)
ويخاطب الشاعر ذاته، فيأمرها أن تتهج، وتسهر، وتقوم الليل، وترتل آيات القرآن الكريم، متناصا بذلك مع قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) “.(سورة المزمل، الآيات 1- 2 – 3 – 4) يقول أحمد مفدي ( صهيل العشق مصدر سابق):
قم في الليل ورتل بعض الآي إذا
سهرت عيناك تجران بقايا: لا
إن الشاعر أحمد مفدي شاعر صوفي، ذو خلفية معرفية وثقافية عربية إسلامية، يغمرها القرآن الكريم بعباراته الطاهرة الجميلة، وتراكيبه الدقيقة، ولغته البليغة، ودلالاته العميقة، فهو شاعر تقوده الصياغة القرآنيةعلى حد تعبير الدكتور محمد بنعمارة( بنعمارة محمد، الصوفية في الشعر المغربي المعاصر)، فقصائد الشاعر تؤثثها اللغة القرآنية فتضفي عليها هالة جمالية شكلا، وعمقا دلاليا معنى، يقول الشاعر( ديوان لوقوف في مرتفعات الصحو):
هل يكفي أن تورق أحجار الرجم
شعارات دمشق….؟
ما أروع أن تتهم الشرق
وما يزهر في خلجانه من سحت قبليّ
يا وجها عربيا
مُسخت سحنته
يتشابه فيه على الملإ البقر
ففي السطر الأخير من هذا المقطع الشعري، قد استلهم الشاعر قول الله تعالى : ” قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (69)“.(سورة البقرة، الآية 69)
هكذا، فالمتأمل في قصائد الشاعر يجد نفسه في صلة متينة بلغة القرآن الكريم الساحرة معجما أو تركيبا أو دلالات، فالشاعر يلجأ إلى تحويل العبارة القرآنية كي تخدم غايته وموقفه الشعري، حيث غير قوله تعالى ” لا تدركه الأبصار” من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب، فتناص مع قوله تعالى :“لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (104).(الأنعام، الآية 104)، إذ قال بديوان (الوقوف في مرتفعات الصحو/ 2019):
فلأنك أنت المكتوب على
حرف اللوح المحفوظ
العالق بالقلب من الوهن
عفوا
قد لا تدركك الأبصار الهمجيه…!
والغرب الضائع
تحضنه الأعطاف الغجريه… !
كما يلجأ الشاعر إلى قلب العبارة القرآنية من الإثبات إلى النفي ( تزّاورُ عن ≠ تزّاورُ عنها)، وفي هذا نسوق قوله بديوان (الوقوف في مرتفعات الصحو/ مصدر سابق):
آت من بغداد …!
والظل يلاحقني …!
يغزل أظلافه
يتملكني…!
ما يسكن نهرا مسبيا
بين الأنقاض على شطآن عربيه …!
آت من مدن
لا تَزّاورُ عنها الشمس
ويكرر الشاعر السطر الأخير بالصياغة ذاتها في ديوانه ” صهيل العشق”، حيث قال:
وتسربلك الأهواء جفونا
لا تزاور عنها الشمس
إن الشاعر – في هذا المقطع – يستحضر قصة أهل الكهف، الفتية الفارين إلى الله، دالا بهذا النفي على إعجابه بالمدن التي قدم منها، ودالا كذلك على دوام اليقظة واستمراريتها، مستوحيا هذا المعنى من قوله تعالى: ” وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ۗ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا (17).(الكهف، الآية 7)
وهذا الاستلهام القرآني لقصة أهل الكهف، قد وظفه بعض الشعراء الآخرين، وخاصة الصوفية منهم، حيث نجد الحلاج قد وظفه كمثال للعاشق الذي يموت حبا، قم ينبعث من جدي لأجل هذا الحب القاتل، قال الحلاج:
ترى المحبين صرعى في ديارهم / / كفتية الكهف: لا يدرون كم لبثوا
(كامل مصطفى الشيبي، شرح ديوان الحلاج، ج.1/1974)
إن القصيدة المفدية لتحفل بالتعبير القرآني، وتنهل من معينه التركيبي والدلالي، مما يجعل ظاهرة التناص القرآني بارزة في الشعر المفدي بقوة، مما يفرض على المتلقي ضرورة العودة إلى النص القرآني الغائب وراء أحرف القصيد لدى مفدي، وذلك كي يتمكن من كشف الدلالات، وسبر النص الشعر المفديالمتعالق مع آيات القرآن بشكل لا تخطئه عين القارء الفاحص اليقظ. ففي المقطع الآتي يخاطب الشاعر ولده، حيث يناديه منبها إياه إلى الظالمين الذين ألحقوا الأذى بالوطن، المستنجدين بالعدو المستعمر الغاشم، كي يعينهم على محاربة إخوتهم ويسلبهم الحرية، ويكرس بالشعوب المزيد من العبودية والتبعية، يقول مفدي(ديوان الوقوف في مرتفعات الصحو):
يا ولدي …
قل من أظلم ممن
لا يكبر ترديد أناشيد الوطن، …؟
قل من أظلم ممن
لا يحطم في الأعتاب بقايا الرسن
ممن يستنجد بالكفر اللافح
في فلق الصبح على
أهل الفرقان وأوتاد السنن
يظهر بشكل جلي من خلال هذا المقطع أن الشاعر أحمد مفدي يوظف التركيب القرآني نفسه، إذ عاد إلى قوله تعالى:” فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ (…) (37)“. (الأعراف، الآية 35).
فالشاعر مسكون بلغة القرآن وتراكيبه وبلاغته، فهو قد عاد إلى قوله تعالى(سورة مريم، الآية 32): ” وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا(32)”. يقول مفدي مستحضرا بداية هذه الآية في المقطع الأخير من قصيدة” تجليات الوطن لعبد الملك“( ديوان الوقوف في مرتفعات الصحو):
فسلام أيتها الأملاء….!
يوم ولدتم في وطن
تحرسه الأملاك…!
وكرام المحتد لا يعييها صون نجومه…!
وقد استحضر الشاعر الآية ذاتها، في آخر مقطع من قصيدة ” الوقوف على خارطة الوطن” من الديوان نفسه، حيث قال:
فسلاما يوم ولدت
ويوم تؤوب من الغرب إليك
مفاتيح رجالك بين يباب وخراب
يا وحدتنا العربيه….!
كما يستدعي الشاعر قصة سيدنا يوسف عليه السلام من خلال دلالات قميصه، يقول الشاعر بديوان (تأملات في تراتيل الناقة):
لما أرخى الجبل الجبل وقد
قدّ الثوب من الخلف شفيفا ….
كي يكشف عورات أبي لهب …!
فالشاعر قد استلهم قوله تعالى” وَٱسۡتَبَقَا ٱلۡبَابَ وَقَدَّ تۡ قَمِيصَهُۥ مِن دُبُرٖ وَأَلۡفَيَا سَيِّدَهَا لَدَا ٱلۡبَابِ قَالَتۡ مَا جَزَآءُ مَنۡ أَرَادَ بِأَهۡلِكَ سُوٓءً إِلَّآ أَن يُسۡجَنَ أَوۡ عَذَابٌ أَلِيمٞ (25)”.( سورة يوسف، الآية 25).فقد استعاض الشاعر عن التعبير الأصلي القرآني( وقدت قميصه من دبر ) بقوله ( قد الثوب من الخلف)، إذ المشترك هنا هو المكان الذي وقع فيه القدّ ( دبر / خلف )، للكشف – في السياق الشعري – عن عورات أبي لهب الذي يحضر كقناع ورمز سلبي، في إشارة لطيفة عميقة من الشاعر إلى ضرورة تعرية كل مظاهر الاستبداد والتسلط، وفضح الطغاة وطغيانهم وخيانتهم لقضايا الوطن العربي.
حاولنا في هذه الورقة العلمية المتواضعة أن نقدم مقاربة تناصيةلتجربة الشاعر أحمد مفدي، تطرقنا فيها إلى يعض مظاهر التناص القرآني في شعره، حيث سقنا بعض المقاطع الشعرية البارزة التي تستبطن آيات قرآنية بشكل كلي أو جزئي، وقد ظهر في هذه المقاطع / النماذج أن الشاعر يلجأ إلى التناص الامتصاصي، حيث لا يجتر النص الأصلي، كما أنه لا يحاوره ولا يدمره، ذلك أن امتصاصه يحافظ على معناه الأصلي وروحه، لكن تم توظيفه في سياقات جديدة تخدم رؤيا الشاعر ومواقفه وما يرمي إليه من دلالات جديدة عبره، دلالات لا يمكن فهمها إلا باستحضار النص الأصلي الغائب . كما ظهر لنا أيضا أن الشاعر أحمد مفدي مسكون بلغة القرآن الكريم من خلال قصصه ومعجمه وعباراته وصوره البلاغية، إذ يبني معماره الشعري مستلهما النص القرآني المناسب للسياق، مما يضفي على متنه الشعري كثافة معنوية، وغموضا لا يقبض على خيوط المعنى به إلا القارئ النبيه الذي يملك خلفية معرفية عمادها عمادها القرآن الكريم، والاطلاع على التراث العربي الإسلامي بشكل واسع.