يعتبر الخوف حالة من حالات النفس البشرية ,تلازم الإنسان شأنها شأن الفرح والحزن وكل الأحوال الأخرى, وقد ارتبط الخوف في الفكر العربي الإسلامي بثنائية الجزاء والعقاب أو الجنّة والنار, فلمن يخاف مقام ربّه فله جنتان هكذا بشر الله المؤمنين الخائفين”هذه آيات عظيمة تدل على أن من خاف مقام الله، فهو من أهل الجنتين العاليتين العظيمتين؛ لأن خوف الله الصادق يحمل على أداء الفرائض وترك المحارم والمسارعة إلى كل خير، من خاف الله صادقًا سارع إلى كل خير، وابتعد عن كل شرّ؛ فلهذا وعده الله الجنتين العظيمتين، وهما الجنتان العاليتان بالنسبة للجنتين الأخريين”[1].
فالخوف الذي يعتري المسلم هو خوف إيمان وابتعاد عن الفواحش, لكن هل كان للخوف نفس المفهوم في الأدب الصوفي كيف عبر المتصوفة عن الخوف في أدبهم هل هو خوف رهبة وخشية أم أنه يتعداهم إلى شيء أكبر من ذلك.
ويعد الخوف جزء لا يمكن إلاّ أن ندرسه في الأدب الصوفي بل هو أكثر من ذلك, فالخوف أصبح حالا من أحوال الصوفي و”الحال معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم من طرب أو حزن أو وسط أو فيض أو شوق”[2].
وقد عرف القشيري الخوف بقوله: “الخوف معنى متعلقة في المستقبل لأنه إنّما يخاف أن يحل به مكروه أو يفوته محبوب”[3].
هذا وقد نظروا في الخوف وقسموه إلى مراتب فهو “الخوف والخشية والهيبة فالخوف من شروط الإيمان وقضيته”[4].
فالخوف متصل بالمنظور الديني الإسلامي إذ نجده مبثوثا في ثنايا القرآن فشرط المؤمن الحق يكمن في هذه الآية “فلا تخافوهم وخافونٍ إن كنتم مؤمنين”[5] يفسرّها القشيري بقوله “كذلك العبد إذا صدق في ابتهاله إلى الله ورجوعه إليه عن مخالفته أواه إلى كنف قربته وتداركه بحسن لطفه”[6], قال أبو جعفر: يقول: فلا تخافوا، أيها المؤمنون، المشركين، ولا يعظُمَن عليكم أمرهم، ولا ترهبوا جمعهم، مع طاعتكم إياي، ما أطعتموني واتبعتم أمري، وإني متكفِّل لكم بالنصر والظفر، ولكن خافون واتقوا أن تعصوني وتخالفوا أمري، فتهلكوا” إن كنتم مؤمنين “، يقول: ولكن خافونِ دون المشركين ودون جميع خلقي، أنْ تخالفوا أمري، إن كنتم مصدِّقي رسولي وما جاءكم به من عندي.
وتتواتر السور الذي تتحدث عن الخوف في القرآن فمنها:”فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”[7] سورة البقرة.
آل عمران “وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ”[8]
وأصبح الخوف مقياس المؤمن الحقّ إذ عد “سراج القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر”[9]
فالخوف شرط السالك والمؤمن النموذج, لذلك فالخوف شرط تكون المومن الحقّ “ما فارق الخوف قلبا إلاّ خرب”[10]. صار الخوف شرطا مصاحبا قلب المؤمن حتى لا يخلو من الإيمان.
لم يعد الخوف هنا شعورا مرعبا ومخيفا كما جرت العادة على ذلك بل صار حالا من أحوال السالك الحق إذ يقول ذو النون المصري “الناس على الطريق ما لم يزل عنهم الخوف فإذا زال عنهم الخوف ضلوا عن الطريق”[11].
“فالخوف عند الصوفية حال يمر به السالك له أهمية قصوى في تجلية مرآة القلب وفيه نجد الشهوات وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والاستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد ويكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه لا فيه لغيره”[12].
وقد أصبح الخوف مرتبطا بالمعرفة “كلما ازداد السالك معرفة بالله ازداد خوفه منه لان حال الخوف متولد من المعرفة”[13].
وارتبط الخوف بالرجاء الذي هو “ترويح من الله تعالى لقلوب الخائفين”[14]
وقد تجلى حال الخوف في أدب التصوف و اخترنا نموذجا أولا من القرن الثالث للهجرة مع الشيخ الشهيد الحسين بن منصور الحلاج وانتهينا إلى القرن السابع للهجرة مع المتصوف الفارسي فريد الدين العطار من خلال منظومته منطق الطير حتى نتبين كيف عالج الصوفي الخوف في ثنايا نصوصه الأدبية.
يواجه الحلاّج خوفه بكل شجاعة في سبيل نيل رضا محبوبه فهو قد عاش تجربة مريرة تمثلت في التنكيل به, وحادثة تعذيبه الشهيرة التي تحدثت عنها كتب التاريخ والأدب, فبشاعة ما حدث له أثناء تعذيبه تدفع على الخوف والرهبة والرعب “” تقدّم الجلاد مشهرا سيفه ومن حوله حملة الرماح والدروع فقطع يده اليمنى ثم يده اليسرى”[15] فالتلف والموت لم يعد خوفا بل صار وجدا إلى محبوب حاضر غائب قريب وبعيد في الآن ذاته قربه جنّة وبعده جحيم لا يقدر على نيرانه العاشق فيقول:
يا من علقت روحي فقد تلفت *** وجدا فصرت رهينا تحت أهوائي
ابكي على شجني من فرقتي وطني *** طوعا ويسعدني بالنوح أعدائي[16]
فالخوف هنا بالمنطق الحلاّجي أصبح خوفا يواجهه وخوف لا يقدر سطوته وهو خوف أن لا ينال رضا محبوبه لذلك يقول:
حبي لمولاي أضناني وأسقمني *** فكيف أشكو إلى مولاي مولائي
ويواصل الحلاج في تحد سافر للخوف المتمثل في فعل الموت الذي طالما شكل حادثا مرعبا يخافه الإنسان ويسعى إلى تجنبه طالما مثل الغيب مصدر خوف خاصة الموت هذا المارد هادم اللذات والذي نهابه نحن كمسلمين وما يتبع عالم الموت في المخيال الإسلامي من مشاهد مرعبة لكن الحلاج يفتح له ذراعيه فيقول:
اقتلوني يا ثقاتي *** إن في قتلي حياتي
ومماتي في حياتي *** وحياتي في مماتي[17]
لم يعد الموت مصدر خوف بالنسبة إلى الحلاّج بل هو يتنبأ بحدث موته قبل موته الحقيقي, فالخوف يعقبه رجاء في رضا المعشوق الأزلي, فلم يعد الخوف سبيلا إلى الجنّة بل تخطاه إلى رغبة الصوفي في التقرّب من معشوقه.إذ سيضمن له الموت هنا الخلود الذي ينشده الصوفي, الخلود الذي سيمحي المسافة بينه وبين حبيبه. وفعلا قد ضمن قتل الحلاّج والتنكيل به في ذلك المشهد المرعب عند تعذيبه خلوده عبر الزمن ولقب بشهيد العشق الإلهي. فالموت لا يخيف الصوفي كونه يسعى إليه حتى يتخلص من كل ما هو جسدي لكن المخيف هو أن لا ينال الرضا وأن يفترق عن محبوبه, إذ يقول الحلاّج:
وحطتك روحي بين جلدي وعظمي *** فكيف تراني إن فقدتك أصنع[18]
ثمّ يقول:
مالي بغيرك أنس *** من حيث خوفي وأمني
إذ يعرف الحلاّج المحبة بقوله “حقيقة المحبّة قيامك مع محبوبك بخلع أوصافك والاتصال بأوصافه”[19].
لذلك ف”بهذا الحبّ وحده يمكن الإنسان أن يصل بالحقيقة العليا وبالمعرفة العليا وأخيرا يمكنه أن يحقّق في ذاته الإنسان الكامل, الإنسان الذي يتخلى عن ترابيته ليتحلى ببهاء الرجل الربّاني الذي يعيش في فيض من نور ربّه وحبّه”[20].
وننتقل إلى القرن السابع للهجرة مع المتصوف الفارسي فريد الدين العطار فمن خلال منظومته منطق الطير نتبيّن الخوف في تردّد الطيور للسفر نحو ملكهم السيمرغ لصعوبة الطريق وجهلهم بمخاطره فكان كل واحد منهم يقدّم أعذاره تعلّة وخوفا من مشاق السفر والمجهول, إذ يقول أحد الطيور مخاطبا الهدهد “أيها المعين والرفيق إنّني عديم القوة شديد الوهن ولم يعرض هذا الطريق أمامي مطلقا, إنّه واد بعيد وطريقه عظيم المشاق لذا فإنّني أموت في أوّل مراحله”[21], فتكون إجابة الهدهد حثّا على السير في الطريق والتخلّص من خوفهم فيقول “إلى متى سيبقى قلبك في الأسر أكثر من هذا؟”[22].
فرغم الخوف الذي اعتراهم والعذاب الذي تعرضوا له في طريقهم إلى السيمرغ تمكّن ثلاثون طيرا من الوصول إلى السيمرغ. ونتلمس بوادر الخوف في هذه المنظومة القصصية في المناجاة الإلهية التي تصدر عن الشيخ صنعان عند عشقه للفتاة الرومية “يا ربّ ألاّ لليلتي من نهار, ألاّ لشمع الفلك من اشتعال, قد قضيت الليالي الطوال في رياضة, وما رأى أحد قطّ ليالي مثلها, ومن الاحتراق كالشمع فقدت كلّ قوّة وما عاد بكبدي من ماء غير دماء القلب وأصبحت كالشمعة أقتل بالإشعال والإحراق”[23].
صار العشق مصدر خوف للعاشق إذ يقول الشيخ صنعان “إنّني أحترق الليلة من جوى العشق ولم تعد لي طاقة لتحمل إيلام العشق, أين العمر لأصف ذلّتي أو لأتأوّه بكامل إرادتي”[24].
فإذا كان الخوف حالا من أحوال الصوفية فالعشق عند العطار مقام من المقامات ومن “يصل هناك يغرق في الحرقة, فلا تجعل يا إلهي أي فرد في هذا الوادي بلا حرقة ولا تجعل عيش من لا يتردى في الحرقة سعيدا مسرورا, فالعاشق من يكون في نار وحرقة كما يكون متقد القلب ملتهبا ثائرا, العاشق من لا يفكر لحظة في العاقبة, إنّما يكون غارقا في النار كبرق الدنيا”[25]. ولنا في حكاية العاشق الذي ألقى بنفسه في الماء عندما رأى معشوقه يغرق “سال العاشق قائلا أيها الجاهل إذا كنت قد سقطت أنا في هذا الماء الجاري فلم ألقيت بنفسك في لجّه فقال لقد ألقيت بنفسي في الماء لأنني لم أعرف نفسي من نفسك”[26]. فالعاشق الحقّ يضحي بحياته ويتحدّى خوفه ويلقي بنفسه في الماء لأنّه يرى حياته في اتحاده بمعشوقه.
ثم يتكرّر مشهد التضحية وتحدي الخوف والانتصار عليه من خلال حكاية الفراشات الثلاث ونور الشمعة, وقد قرّرن بطلب من حكيمهم الذهاب لاكتشاف نور الشمعة, فلم تتمكن من ذلك وتتغلّب على خوفها غير الفراشة الثالثة, فيقول العطار واصفا هذا المشهد “نهضت ثالثة وأسرعت ثملة نشوانة وعلى وهج النار استقرت ولهانة, فاحترقت كلّها في النار وأفنت نفسها كلية وهي في غاية السرور وما إن احتوتها النار حتى احمرت أعضاؤها وتلونت بلون النار فما أن رآها ناقدهم من بعيد ورأى ما فعلته الشمعة بها وما تبدل إليه لونها حتى قال, لقد أصابت هذه وكفى والشخص الذي يعرف هو من لديه الخبر وكفى ومن أصبح بلا أثر وبلا خبر هو الذي يعرف الخبر من بين الجميع”[27].
ويواصل العشاق التضحية بأرواحهم وتحدّي خوفهم من خلال حكاية الشيخ الذي عشق ابن السلطان فقام السلطان بصلبه, فيقول مناجيا ربه “يا ربّ لم يريد السلطان قتلي دون ذنب وإن أكن قد فقدت الروح قبل فاطلعني ذات يوم على جمال ذلك الغلام فان أر وجهه أقدّم مائة ألف روح فداه”[28].
فالصوفي ملزم أن ينتشي خوفا ويتقدم نحو خوفه ثملا بعشقه حيث”يدرك السالكون في محيط الألم ماذا يصنع فناء العشق مع الرجال فيا من اختلط وجودك بالعدم واختلطت لذاتك بالألم ما لم تقض فترة في ألم واضطراب فكيف ندرك أي خبر عن وجودك … تقدّم بشجاعة وأحرق العقل وتقدم كالمجنون”[29].
“وصل الثلاثون وقد عدموا الأجنحة والريش وألم بهم التعب والوهن وصلوا محطمي القلوب فاقدي الأرواح سقيمي الأجساد فرأوا الحضرة دون وصف أو صفة رأوها تسمو عن الإدراك والعقل والمعرفة”[30].
فبين الخوف كحال صوفي وبين العشق كمقام يتحدّى الصوفي خوفه, فالسالك الحق هو من يجابه خوفه بشجاعة هكذا يفتح الخوف أبواب الرجاء فيلجها السالك ناشدا نيل رضا معشوقه الذي لا غاية سواه وكذلك يلج قارئ النص الصوفي رموز النصوص الصوفية فيتسلح بجرأة ومعرفة يتحدى بها خوف النص الصوفي ويكشف خباياه.
قائمة المراجع
– أبو القاسم عبد الكريم بن نوزان بن عبد الملك القشيري “لطائف الإشارات”-دار الكتب العلمية-بيروت-ط2-2007
– فريد الدين العطار “الهي نامه”، ترجمة ملكه علي تركي-كلية الآداب عين شمس-ط2-القاهرة-1998
– فريد الدين العطار “منطق الطير”-ترجمة محمد بديع جمعة-دار الأندلس للطباعة والنشر-القاهرة
– طه عبد الباقي سرور “الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوف الإسلامي”-مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة-القاهرة-2012
-كامل مصطفى الشيبي”شرح ديوان الحلاج”-منشورات الجمل-ط2-لبنان-1993
[1]-https://binbaz.org.sa/fatwas/13822/%D8%AA%D9%81%D8%B3%D9%8A%D8%B1-%D9%82%D9%88%D9%84%D9%87-%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%89-%D9%88%D9%84%D9%85%D9%86-%D8%AE%D8%A7%D9%81-%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%85-%D8%B1%D8%A8%D9%87-%D8%AC%D9%86%D8%AA%D8%A7%D9%86
[2]– أبو القاسم عبد الكريم بن نوزان بن عبد الملك القشيري “لطائف الإشارات”-دار الكتب العلمية-بيروت-ط2-2007-ص. 132.
[3]-نفسه ص. 234.
[4]-نفسه ص. 234.
[5]-سورة ال عمران الآية 175.
[6]– القشيري “لطائف الإشارات” -ص184
[7]-سورة البقرة الآية 38
[8]-سورة ال عمران الآية 169
[9]-“الرسالة القشيرية” -ص235
[10]-“الرسالة القشيرية”-ص236
[11]-نفسه ص236
[12]-فريد الدين العطار “الهي نامه”، ترجمة ملكه علي، جامعة عين شمس –القاهرة-1998ص75.
[13]-نفسه ص76
[14]–
[15]– طه عبد الباقي سرور “الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوف الإسلامي”-مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة-القاهرة ص113
[16]-“شرح ديوان الحلاج”-ص183
[17]-نفسه ص204
[18]-طه عبد الباقي سرور “الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوف الإسلامي”- ص150
[19]-نفسه ص143
[20]-الحسين بن منصور الحلاج شهيد التصوف الإسلامي”-ص145
[21]-“منطق الطير” -ص251
[22]-نفسه ص 251
[23]-فريد الدين العطار “منطق الطير”-ص221
[24]-نفسه ص222
[25]-نفسه ص366
[26]-“منطق الطير”-ص392
[27]-نفسه ص406/407
[28]-نفسه ص411
[29]-نفسه ص412
[30]-“منطق الطير” -ص416