بديهي القول أن انتشار المقاهي الثقافية في بلد ما،لهو مظهر حضاريّ،ودليل على نهضة شعب أو أمّة.ذلك ما عرفته البلاد العربية،إبان عصر النهضة في أكثر من قطر عربيّ،خصوصا في لبنان ومصر.وما لبثت تلك الظاهرة أن انتشرت واسعا مع النهضة القومية في النصف الثاني من القرن العشرين ،وهي الفترة التي تعزز فيها الانتماء القومي،متزامنا مع دعوة لنفض الغبار عن التراث العربي،باعتباره هوية الأمة.
في تلك الفترة،بدأت المرأة تحتل موقعا في النهضة الثقافية وان بشكل محدود،موجهة جهودها نحو فنون بعينها”المسرح،السينما والأدب.”فلعبت دورا في تنمية الوعي الوطني،والارتقاء بالمستوى الثقافي مكرسة حق المرأة بمشاركة الرجل،إذ لا تقل عنه إبداعا.
وقد ساعدها في نهضتها ذلك الجو الجديد حافلا بالدعوات إلى التحرر والانفتاح دون عقد مسبقة.هو ما بدأ مع عصر النهضة من تفاعل مع الحضارة الغربية .
وبالانتقال إلى موضوعنا المقترح،ينبغي التساؤل أولا:”هل هناك في الأمة ما يمكن اعتباره مقاهي ثقافية؟”أم أن هناك دكاكين ليست الثقافة فيها أكثر من سلعة؟
واقعا،شهدت المجتمعات العربية بعد الهزائم السياسية والعسكرية تراجعا للثقافة التي برعمت في النصف الأول من القرن الماضي نتيجة انقلاب المقاييس واختلاف المعايير التي لا مجال للحديث عليها هنا.
نعم،هناك بعض المنتديات الثقافية،والمجالس لتي صمدت في مواجهة التيارات الطارئة التي اجتاحت الثقافة العربية فانكفأت القوى الملتزمة بها نحو زوايا ليمارسوا الثقافة بحياء.لا نغض من، قيمة تلك المجالس ,والمنتديات،رغما عن فاعليتها المحدودة،سواء في بيروت أو في مناطق أخرى.وانطلاقا من الواقع الراهن ننظر بموضوعية إلى الأنشطة أن في تلك المجالس،أو مقاه في شارع ” الحمرا ” في بيروت.
على مستوى المجالس الثقافية،يسجل للمجلس القافي للبنان الجنوبي،والحركة الثقافية في “انطلياس” دورهما الايجابي،وتحرر المسؤولين من قيود السياسيين والطائفيين مطلقين فرصا ليقظة ثقافة متنورة في زمن الظلمة.وفي تلك المجالس المشار إليها وجوه نسوية بارزة وافدة من الجامعة متجاوزة المحاذير لأهداف ثقافية وقناعات شخصية.قد لا تكون بنفس الزخم الذي يتمثل في أنشطة الرجال،لكنها محاولات ناجحة وقد تصبح تجارب للنساء المثقفات حيثما كنّ.
أما في المقاهي الثقافية،فلم يسجل مستوى راق فيها شأن ما نرى في المجالس.لا ننكر أن منها ما انطلق بشعارات نظيفة مفسحا المجال للمرأة كما للشباب الذكور لتقديم إبداعاتهم وان في جو محدود،كالمقهى بزبائنه المحدودين.فكانت الخطوات الأولى مباركة،إلا أن فاعلية تلك المقاهي ظلت في إطار نخب لا تتجاوز العلاقة بين أفرادها حدود الصداقة والزمالة.وأقرب لأن تكون موسمية،بحيث لم تتسع دائرتها إلى خارج تلك النخبة.وهي علّة المثقفين عموما،أن في تلك المقاهي،أو في الصحافة المكتوبة.فمن النساء من حاولن التفاعل بايجابية في المشاركة،إلا أن ضيق الدائرة ’من جهة،والعقلية النرجسية لدى المثقفين،فضلا عن مفاهيم أخلاقية مشوهة كان عوائق دون إفساح المجال أمام مبدعات طموحات تحاولن نشر عطاءاتها في المكان المناسب.
هذا الواقع المتردّي ثقافيا،وفي ظل تراجع الحركة النقدية ،ترك تداعيات خطيرة على مختلف الفنون ومنها الأدب والشعر،فانطلقت موجة من التفلت الثقافي متجاوزة أبسط مظاهر الانتماء ومقتضيات الهوية الثقافية لأمة ما.نعم كثرت المقاهي الموسومة زورا بأنها ثقافية،وراجت موضة “الشعراء والشاعرات”فشهدت إقبالا لافتا من قبل جيل من الشابات والشباب ليتنافسوا على انتزاع الحق بلقب الشاعر تنافسهم على شرار الجينز أو الجوال وما إلى ذلك.بغض النظر عن قيمة الموهبة.
لا مشكلة في ذلك ما دامت الفتاة تجد من يتبناها شاعرة،ويسوق لإنتاجها مقابل خدمات بسيطة.أشير هنا إلى منتديات كثيرة انتشرت لتحط رحالها في مقاه مروجة لشعر هذه الفئة أو تلك.فظاهرة التفلت من قيود النقد،والفن عموما،جعلت كل شيء مستباحا بخفة وانحطاط فكري.فموضة قصيدة النثر،بواقع التعامل معها اليوم بعيدا عن خلفياتها الفنية أتاح لكل من تكتب جملتين أن تسميهما قصيدة نثرية.حتى بتّ ترى من هي في العشرين من عمرها وقد بات في عطاءاتها أكثر من مجموعة.
فتسأل مرتابا بالأمر،ما قيمة الفن إن لم يقدم إضافة إلى ما هو رائج؟أيّ جديد يقدمه شاعر أو شاعرة لم يطلع واحدهما على خزائن التراث،وفحول الشعر!أيعقل لشاعرة تملك دواوين في قصيدة نثرية،ولا تعرف شيئا عن المتنبي وامرئ القيس وأبي نواس وأبي تمام وسواهم ؟
نعم ببساطة نقول: أن الإقبال على المقاهي الثقافية دافعه طلب الشهرة لئلا يتهم الواحد بالتخلف باعتبار “الموضة”عنوان حداثة.
أمنيتنا تصويب المسار الثقافي.هل يستقيم الوضع فتقبل المرأة بوعي لقيمة مواهبها فتجسدها إبداعا يليق بها بدل أن تبيع نفسها سعيا إلى لقب زائف؟