أحمد شرقي| المغرب
مقدمةُ الأخبارِ، التي أذاعت خبرَ ظهورِ كورونا لأول مرّة، هي نفسُها التي أعلنت، بصوتها المبحوح، وملامحها الكئيبة، وصولَ مرض “هيدنوفوبيا” إلى بلدنا، بعدما اجتاح بقاعا عديدة في العالم.
من أعراضه – قالت المذيعة – فقدان حاسة تذوق البهجة، ضعف حاد في حاسة شم المرح، صعوبة فتح الفم وإظهار الأسنان، ألمٌ في الوجنتين والشّفتين بمجرد محاولة الضحك، مع فقدان القدرة على الابتسامة الصادقة.
كنا حينها في مقهى “كولومبوس”. لقاءاتنا كانت حماسية تفاعلية، تتخللها كثيرا عباراتٌ من قبيل: “اسمح لي قاطعتك”، “في نفس السياق”… لا مجال للفراغ في تلك النقاشات، لكن ذلك اللقاء، لم تكن بدايته موفقة.. خبر المرض الجديد الذي تلقيناه عبر تلفاز المقهى مقلق حقا!
ولجْنا المقهى كالعادة متأبطَيْن كتبنا ومجلاتنا ومذكراتنا، تماما كما كان يحدث، ونحن ندخل أقسام المدرسة ومكتبتها قبل أعوام. القناة الإخبارية نفسها. الطاولة التي احتضنتنا أنا وأنس، والمشروب الذي وُضع عليها، لم يتغيرا أيضا.. كأسَا قهوة سوداء، لتظل الذاكرة يقظة، وتستحضرَ تفاصيل الأيام الخوالي بحلوها ومرّها.
“وسط كل هذا الفراغ، الذي يخنقنا، حاوِل فقط أن تمنح نفسك بعض العزلة للتأمل. ستجد أن هناك أشياء كثيرة تنتظرك، مادّةً يدها إليك لتنتشلها من أمواج إهمالك”. كانت تلك حكمة من بين حِكمه اليومية، التي مهّد بها للخبر الذي يريد هو الآخر زفه إلي:
“كتابة جيدة، وتشخيص متقن، يكفيان لإضحاك أكثر المتشائمين والساخطين وسط الجمهور، وستكون فرصة لمحاربة هذا المرض الجديد.. الهيدنوفوبيا”.
عاد مجددا إلى هلوساته؛ فأنْ تكون جالسا في أمان الله، مرتاح البال، تنعم بتقاعدك من الوظيفة، ثم تفكر في الرجوع إلى هوايتك التي هجرتها منذ عقود، وأن تكون تلك الهواية هي إضحاك الناس؛ أي العودة إلى الرُّكْح، فاعلم أن أعراض الشيخوخة بدأت تظهر عليك.
احتفظْتُ بكل تلك الكلمات في صدري؛ لأنها ستكون قاسية في حالةِ أطلقْتُها في وجهه، لعلمي المسبّق بتشبثه بالمسرح منذ لقائنا الأول؛ فرغم التحاقنا بمهنة التدريس سويا، واستغنائنا عن مواهب وهوايات كنا نعشقها، وكانت لنا متنفسا… إلا أنه كان يناضل في بداية كل عام دراسي، حتى يُقنِع إدارة المدرسة بإحياء الأنشطة الموازية، والاعتناء بالأندية الأدبية والفنية، وعلى رأسها نادي المسرح، الذي كان يشرف على تأطير تلاميذه.
استفسر أنس إثر صمتي، وعدم تفاعلي:
“ألم تكن أنت أول المؤمنين بموهبتي؟ لمَ لا أستغل هذا الظرف العالمي لأشفي الناس، وأنا كلي طاقة وحيوية، وقد بلغت مرحلة من النضج جعلتني خبيرا بهموم الخلْق ونفسياتهم؟!”.
أزحْتُ كأس القهوة الساخن، الذي كان في منتصف الطاولة، إلى الوراء براحة يدي. وقبل أن أرشف ما بداخله دفعة واحدة، دافع عن قراره:
“او زَيْدُونْ أنْتَ كاتب، كاتَكْتَبْ في الرواية والقصة… عْلاشْ ماتْعَاوَنِّيشْ في كتابة وانْ مانْ شُو دْيالي؟”
أكّدْتُ له أن البشر مزاجيون؛ قد ينفجرون ضحكا إثر عبارة أو حركة تافهة، على حين يتحجّرون في أمكنتهم، وقد يمتعضون، بعد موقف عانى الفكاهي في نسجه، ليمزج بين الحكمة/ العبرة/ لفت الانتباه من جهة، والسخرية من جهة أخرى. ثم إن فنّا كهذا يتطلب خفة ورشاقة وشبابا.
استمر أنس في دفوعاته:
“إن ما يصطلح عليه “فن ستانداب” اليومَ مارسته في السبعينيات، وكان ليه الشّان، وكان هادف.. هايْ هايْ، غير أجي واطلع للخشبة! باش تضَحّكْ الناس خاصّك تكون باحث ومثقف حقيقي”.
كان يدلي بحُجَجه دون كلل ولا ملل، الواحدة تلو الأخرى :
– ماذا قال العظيم شارلي شابلن؟
– ماذا قال؟
– قال: يوم بلا ضحك هو يوم ضائع.
ضاعت كل مشاريعه بعد ذلك الاستشهاد؛ إذ أعلنت صديقتنا مقدِّمةُ الموجز الإخباري/ الإنذاري: … لأن هذا المرض مُعْدٍ، وتبقى وسيلة اتقاء شره – وَفق الأخصائيّين – هي الابتعاد عن كل ما من شأنه إثارة ضحكنا هذه الأيام؛ لذا، تُنهي وزارة الصحة إلى علم الفكاهيين والمسرحيين كافة، أنه يمنع منعا باتّا تقديم عروض في المسارح أو التلفزة أو في الأنترنت، هدفُها إضحاك الناس وإسعادهم، مع ضرورة تأجيل كل العروض المبرمجة، أو التي قيد الإنجاز، حتى فرح آخر…