بداية ننطلق من العنوان شعرية المعنى الجنائزي إضاءات لتجارب شواعر و شعراء على امتداد الخارطة الإبداعية العربية، حدثنا عن حيثيات هذا المنجز الفكري؟
أشكركم على الاهتمام أولا وأحيي في الأحبة والأشقاء الجزائريين هذه الروح والنخوة الراعية للغة الضاد في مختلف الأنماط التعبيرية والأجناس الإبداعية، كون هذا المنجز الذي أنتم بصدد تسليط الضوء على عوالمه، والمعنون” شعرية المعنى الجنائزي” باكورة إصداراتي النقدية ، تمّ بدعم من دار الماهر.
اعتقد آن أهميته تأتي من كونه حقق ضربا من الانتصاف لجملة من التجارب سواء أكانت في طور الابتداء أو مستوى معين ومقبول من الخبرة والدراية بالقول والممارسة الشعرية، فضلا عن أنها تراكم من الدراسات التي طالت قصائد ومجاميع موقعة ،علاوة على الصوت الرّجالي ،وإن كنت ضد التقسيمات التي تكرّس لمثل هذه التمايزات،بحكم الوحدة الإبداعية في اعتقادي ، وصرف النظر عن طرف أو نوع الجنس المسهم في إنتاجها ..
قلت هي توقيعات بنون النسوة ، والأقلام المهجرية أيضا، قاربتها على نحو عادل جدا ، الغلبة فيه للنصوص التي أطالعها وتستهويني بقيمتها الجمالية وحمولتها الفكرية، بعيدا عن الارتجال أو الاصطفافية و منطق المفاضلات.
بخصوص مكونات هذا المنجز، فقد تطرّقت من خلاله إلى الكثير من المفاهيم في المجال النقدي، فالكتاب تترعه منظومة مفاهيمية تحتفي بالانطباعية والنأي أقصى حد ممكن عن الصرامة الأكاديمية وجلدها الأناني، كما يمكن القول أنها لا تجتر النظريات النقدية الغربية، ولا تستنسخها أو تكررها، على الإطلاق، بقدر ما تدشّن مواجهات مع تجارب أطربت روحي، بشكل مخملي في الغالب، مكسّر للقواعد القشيبة والمعايير المترهلة بالأحكام الجاهزة والمسبقة.
هي مقاربات عاشقة تماما تنتصر لجودة النص ،ولا شيء عدا ذلك.
متوالية مفاهيم عن الحب والحرب والحرية والجندرية والأوجاع العربية والانشغالات العربية والكونية إجمالا،قد تتأسس على منوالها اشتراطات الحياة المحاكية أو الموازية كبديل لعالم سلبي وناقص ،راح يتجاوزنا بكامل هذه الفوضوية والدموية واللااستقرار.
ممارسة نقدية تتوسل محطات الخلاص الإنساني والوجودي ،باقتفاء أثر نصوص تتفشى عناوينها ومضامينها في كهذه اتجاهات،وتقمّطها لنظير هذه القصديات والأغراض.
إنها الكتابة التي تحاصر فضوى العالم والغيرية والذات، وهي أيضا تهدم لتبني وتقدّم إرهاصات للولادات الثانية التي نشتهيها جميعا.
ما موقع الحرية في كتاباتك، و هل هي بالنسبة إليك أفق لا نهائي يسعى لإثبات موجوديتنا في السياقين الفردي و الحضاري الجمعي؟
على مرّ العصور، داخل حدود الثقافة العربية كما خارجها، نجد ثيمة الحرية وقد شكّلت هاجسا قويا استحوذ على مخيلة الكائن العادي والبسيط، فما بالك بالمبدع؟
تحضرني ههنا سيرة الشاعر الجاهلي الفطحل عنترة العبسي، وكيف أنه عاش مناضلا من أجل لحظة الانعتاق والحصول على صك الحرية ، هذه القيمة المنشودة على الدوام، وفي دورة حياتية سرمدية وممتدة.
الأكيد أن المقدس أشار إلى هذه الخصيصة الوجودية في أكثر من مناسبة، على اعتبار الإنسان إنما يولد حرّا ، بيد أن ما يستعبده الآخر،جراء تحريف طقوسيات الممارسات الأيديولوجية ،بل وحتى الاستثمار غير البريء للدين،وتزيفها لصالح الأنانيات والنفعيات الضيقة في الزعامة وغيرها .
تبقى الحرية الإبداعية منوطة بوعي المبدع بخيريتها وأفضليتها وإن على نسبية حيزها المتاحة عبره ومن خلاله، ونجاعتها كذلك في التأصيل لثقافة إنسانية لامة، لا تذوب معها خصائص وملامح الهوية العربية بالطبع.
إن الظروف التاريخية التي تعرضت لها الأمة العربية في القرون الأخيرة، أفضت إلى نسيان بعض الشعوب العربية لهويتها فأصبحت إما جاهلة لها أو تبحث عنها، ما هي تقييمك لموقع الهوية في كتابات الشواعر و الشعراء العرب؟
إنها حتمية الانخراط في عصر التقنية والتكنولوجيا، لأنه لا سبيل إلى إثبات هويتنا وإبراز مقومات الأمة ، بلا انفتاح على أمريكا والغرب، شريطة ألا يكون هذا الانفتاح أعمى وتبعية عمياء، تسبب لأوطاننا العربية بكامل هذه الشروخ والتشرذمات والتفككات ، مثلما سنحت بتعشيش العديد من الأوبئة الإيديولوجية والثقافية و الاختلالات العقدية،قسطا نخر الكيان المجتمعي العربي وذهب ببعض مكتسباته، وخدم خطاب التطرّف وأغرى بلغة الدم التي يذهب ضحيتها الكائن حيثما تواجد ،وبمعزل عن الانتماءات اللسانية والعرقية والجغرافية.
مجمل كتابات الشواعر والشعراء العرب تهيمن عليها أنساق التشظي والانكسار في محاولة للملمة شظايا هذه الفسيفساء المقدسة التي اسمها ” هوية عربية” متعايشة ومتسامحة ومنتسبة إلى شجرة الإنسانية.
هل ترى أن الشعراء العرب متخلفين من حيث الوعي التاريخي و الإحساس الحضاري و الشعور الإنساني؟
في النهاية ، نجد هؤلاء ،شعراء و شواعر بنات وأبناء جيلهم وانتهى، وإن جدّف معظمهم مع تيارات التنكر وإن بشكل عرضي وغير مقصود للتاريخ والذاكرة، ضاربين بذلك عرض الحائط ليعيشوا تحديات الآني بحارق أسئلته وعميق أزمته، مع بضع فلتات تستوقف المتتبع للمشهد الإبداعي العربي في كليته، كوننا إزاء مرحلة تكتب بالدم، وما سطوع ما يسمى ب” ميلشيا الثقافة” أو هذه الموجة التي تأسست بأشعار صفوة من الأسماء العراقية ،نورد من بينهم للمثال لا الحصر: كاظم خنجر و أحمد ضياء ومحمود عواد وعبد الحسن الحيدري ومازن المعموري وعلي تاج الدين ووسام علي،والقائمة تطول.
ما إشراقة هؤلاء إلاّ نوعية إبداعية تدلل على فهم حقيق للمرحلة في سياق الالتحام بمعطيات التاريخ والذاكرة العربيتين، زيادة على اتقاد الحسّ الحضاري والإنساني ،تماما مثلما تفضّلتم.
بعض النقاد الجدد في الغرب ينادون بضرورة إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية لتترك الحرية الفنية للأديب حتى يتمكن من الارتقاء في كتابته إلى أعلى المرافئ الممكنة في سلم الإبداع، ما قولك؟
ليس المهم في ما تقوله المدارس والمذاهب النقدية الغربية ، بل في ما يناسب طموح وفورة تجديد معجم الضاد أصلا والذي فيه ثراء ولملمة ونضج للهوية.
لا جدوى من التطاحنات الأجناسية أو التعصب لشكل تعبيري دون آخر. المهم مستوى الإبداع وفي جميع الحقول، لوحة كانت أم قصيدة إلخ…
والأكيد أن كهذا رهان ليس يتأتى بسوى مزيد من الحرية يُفترض أن تعطى للمبدع كي يقول كلمته بأريحية ومسؤولية وموضوعية وأمانة تاريخية كبيرة.
وفي ذات السياق دوما ، أجد الثورات العربية الفاشلة، إنما حصدت مرارة خوض مغامرتها كل الشعوب العربية، كون ماتمّ هناك، ترك له صدى وانطباعا مولدا للإحباط والخيبة واللاجدوى هنا.
قلت أجدها قامت على ثقافة متسرّعة وغير ناضجة ولا مختمرة ، مع أن لآلة القمع العربية الباع الطويل في خنق أحلام البؤساء والمعدمين، وهي ثقافة لم تتشرب ينابيع الحرية كما يجب، وطفت على السطح بلا تخطيط وتكتيكات واعية مسبقة، فكان ما كان ،تكالب على السلطة و بوادر لانبعاث الدول العميقة ، والبقية جلية وواضحة وضوح الشمس تعرفونها كما لا تخفى على أحد.
هذا وأحسب هذا الخرق الأجناسي غنيمة كبيرة وفاكهة مشتهاة تلبي جميع الأذواق وجب تنكيه مشهدنا الإبداعي بها،وانتقاء الأفضل يظل متروكا للمتلقي مثلما هو معلوم.
في تقديرك ما هو الدور المنوط بالمثقف العربي على مختلف المستويات الإبداعية في ظل التشرذم و الانقسام الحاصل في البلاد العربية ؟
المثقف العربي مطالب بالانخراط في الحياة السياسية والعامة وترك الأبراج العاجية لأن هذا ليس زمانها.
فالثقافي ما لم يخلّق السياسي والعكس بالعكس، يقبع مجرد صيحة في واد،ومرآة مراوغة يكسوها الضباب، ننجذب إليها للتماهي في اللحظات الكاذبة ، إذ سرعان ما تشوش على وجوديتنا وتنغّص على إنسانيتنا أسئلة الغائية الإبداعية وجدواها.