تفاصيل الواقف قبل أن يستريح{1}
إعداد مهدي النفري
كتابات من أصدقاء الشاعر والمترجم محمد عيد ابراهيم
لا نستطيع، ونحن نقترب أو نتأمل في تجربة فريدة في نقل وترجمة آداب ولغات وثقافات متباينة، من حساسيات وأزمنة مختلفة، تجمع أحيانا بين الأعمال الصادرة للتو، والأعمال التي صدرت منذ قرون عديدة، لا نملك إلا أن نقف فاغري الأفواه، ونحمل علامة استفهام كبيرة حول هذه الطاقة الجبارة التي تئن بحملها الجبال، والتي أسعفت المترجم المصري محمد عيد ابراهيم في تحقيق عبور كم هائل من الأعمال المتباينة المشارب والأطياف والحاملة لثقافات تبدأ من الصين ولا تنتهي عند أمريكا، عبورها إلى لغته العربية. لنتأمل فقط الأرقام: أصدرت سلسلة “آفاق الترجمة” التي ترأس وأشرف عليها محمد عيد ابراهيم، بين 1996 و1998، 54 عملا فكريا وإبداعيا، وهي سلسلة تابعة لهيئة قومية. وأصدر محمد عيد ابراهيم من خلال مجهوداته الخاصة، على مدى نصف قرن تقريبا، 67 عملا فكريا وإبداعيا (بما فيها طبعات أعيد نشرها طبعة ثانية وثالثة). أليس ما قام به محمد عيد ابراهيم يعتبر عملا فريدا وخارقا، وأن التوصيفات السابقة ليست من قبيل الإنشاء وإطلاق الكلام جزافا؟ أليس ما قام به بتجاوز طاقة المبدع الفرد، ويندرج ضمن عمل المؤسسات التي، كي تستطيع تحقيقها، توضع المشاريع والإمكانات رهن إشارتها؟ ألا يشي ذلك أن محمد عيد ابراهيم ما كان له أن يحقق ما حققه من إنجازات لو لم يكن يملك مشروعا طموحا من قبيل مشروع الترجمة العربية الكبير لنقل الآثار اليونانية على عهد المأمون، وهو ما سعى لتجسيده بإمكانياته الخاصة أولا، وثانيا من خلال إشرافه على مجموعة من الهيئات الرسمية، في ظل بؤس الواقع محليا وعربيا؟
لا يغيب عن بالنا أن الأرقام وحدها غير كافية. لكن لا يمكننا أن نغفل، من جهة ثانية، من خلال من تناولوا تجربته الطويلة في الترجمة، تأثير هذه التجربة المفردة على حركة الترجمة العربية، على صعيد الكيف حيث غيَّرت الكثير من المنطلقات التي كانت تسمح للإبداع أن يتكون وينمو، بفتحه أمام جماليات مختلفة، جماليات تهدم ما هو قائم وتؤسس لما يقوم على انقاضه، خارج المرجعيات والحساسيات الجمالية التي كانت تكون نسغ تمثلاته وآفاقه المنشودة. وإذا أتيح لنا أن نستعير، اصطلاحا من أحد النقاد المغاربة، هو محمد علوط، سماه ب “شعرية المماثلة” و”شعرية النفي”، لقلنا إن ترجمات محمد عيد ابراهيم، إلى جانب ترجمات أخرى بالطبع، ساهمت بقسط وافر في انتقال الإبداع العربي، بعد أن تكرست أسماء، وأصبح ما يكتب بعدها مجرد استنساخ وإعادة تدوير ما أنتج سلفا، انتقالا من كتابة “المماثلة”، إلى كتابة “النفي”. المماثلة، بمعنى التماهي مع أفق التلقيات المألوفة التي تشتغل على صعيد الذاكرة الجمعية، أو ذاكرة الكتابة والسقوط في أسر النماذج المكرَّسة، للخروج بها إلى كتابة مغايرة تضع الآخر كأفق حركتها المتغايرة. الآخر، بالمعنى اللاكاني LACANIEN باعتباره يشكل لاوعي كل ذات، أي “المكان الغريب الذي ينبثق منه كل خطاب”.
وكمتلقٍّ، يعترف بالدين الذي لعبته الترجمة في تكوين مساره وتغيير ذائقته الشعرية، تعرَّفت على المعلم محمد عيد ابراهيم أول مرة من خلال ترجمته لديوان: قصائد حب، للشاعرة الأمريكية آن سكستون، الذي وافق هواي باعتباره ينتمي لجمالية الهتك، كما يسميها، فقد كنت حينها أقرأ للماركيز دو ساد ولجورج باتاي، ولأنتونان آرتو، ولكل من جرى مجراهم. وكان تعرفي على الأستاذ محمد عيد ابراهيم في الحقيقة، بشكل مباشر من خلال عملنا كمستشارين في مدونة جورج باتاي، وتاليا ضمن هيئة انبثقت عنها وأصدرت عددين (وأعدَّت ثالثا لم ير النور لظروف خاصة) من المجلة الإلكترونية “انتهاكات”، كان تعرفي عليه نوعا من اللقية الثمينة التي يمكن أن يعثر عليها أحد يوما. وسأحتفظ بكثير من الود للظروف التي جعلتني ألتقي بهرم من أهرامات الترجمة في مصر، حيث تعامل معي بتواضع كبير ونكران للذات، فقد كنت ألجأ إليه عندما كنت أواجه مصاعب في الترجمة، أو حينما كنت أحتاج إلى المزيد من التدقيق في صيغة ما، وحتى لبعض التدقيق اللغوي. كان يقرأ نصوصي المترجمة الطويلة، ولا يتبرم منها أبدا ويعيدها إليّ بتصويباتها وإن اقتضى الأمر بوجهة نظره في بعضها أو أجزاء منها. لقد كانت مرحلة تعلُّم أساسية في مساري المتواضع.
ومنذ تعرفي على الشاعر والمترجم محمد ابراهيم عيد ظل سؤال يتناسل وتتردد أصداؤه في نفسي: كيف لروح تعدَّت عقدها السادس الآن، كيف لها أن تحتفظ بكل هذه الطاقة المتوثبة والخلاقة للعمل؟ كيف لنا أن نلتقي، أنا الذي لم يخطُ في درب الحياة والكتابة غير خطوات قليلة متعثرة، وليس له من زاد غير فورة طموحه الذي يجرفه الاندفاع والحماسة، ومحمد ابراهيم عيد الذي يصرُّ إلى الآن على أن يجعل رؤيته تحتفظ بكثير من جينات التمرد والخروج على المنجز الشعري، ولو كان منجزه هو من خلال حمله لواء النصوص التي تحرِّض الكتابة على ارتياد جماليات مضادة يسميها، “جماليات التمرّد والهتك والعنف ومضادات الرومانسية”، أو “جماليات إبادة القديم، لا عبادته”؟ من أين تأتيه هذه القدرة على الإنصات للأصوات التي تحبو على الطريق الطويل والشاق للكتابة، وهو الذي يعرف النماذج من “كبار” الشعراء والنقاد الذين يترفعون عن، ويحاكمون بعقلية أرثودوكسية تدين النماذج الجديدة في الكتابة وخصوصا تلك التي تتوسَّل بقصيدة النثر في التعبير عن نفسها؟ كيف استطاع أن يفلت من الغرور الذي يورثه الزمن ويصيب صاحبه بعمى ألوان وعدم القدرة على الخروج من جرابه القديمة؟ تفسيري لذلك أن محمد عيد ابراهيم ظل يملك روح فتوة وشباب متجددة، تطمح دائما إلى التغيير، وهذه تمكنه من رؤية ما يعمى عنه آخرون؛ كما تعود في جانب منها إلى روافد الترجمة التي وسعت آفاقه وجددت دماءه، التي غدت دائما شغوفة بمزيد الحياة في اللغة وباللغة.