حِرْفَةُ الـمُثَقَفِ ومِحْنَتُهُ


بعد طرح غرامشي لقضية المثقف العضوي، ساد الاعتقاد في الأوساط الثقافية العربية بأنّ حِرفة المثقف هيالكتابة ضدّ السلطة ومناهضتها، كانت البدايات شرارةً لفوضى خلاقة وصراع من نوع مختلف، صراع بين من يعلم وبين من يعمل بلا علم، في اعتقاد المثقفين على الأقل. وبين من يراقب وبين من بزمامه الأمور، كما يفرض واقع الحال.

لذلك حاولت العديد من الأنظمة في العالم العربي تكسير أقلامٍ عدّة والدفع بالعديد من المثقفين إلى محنة لا يعلم أسرارها إلا من ذاق ويلاتها، خاصة أنّ المثقف يعيش حياةً غير حياة الكتابِة ضدّ السلطة، إنّها حياة المركز والحياة الأخرى تقبع في الهامش، أقصد الوقت الذي نُفكر فيه خارج سلطة القلم، الوقت الذي نمارس فيه عفويتنا ونسبح في طبيعتنا لنمارس اليومي ونخضع لسلطة الالتزامات البيولوجية والأخلاقية.

لقد أغفل جلّ الذين تناولوا علاقة المثقف بالسلطة – نقداً ودراسةً – أن يحددوا طبيعة السلطة التي يُفترض أنّ المثقف في صراع دائم معها، خاصة مع ولادة نظام عالمي جديد تطبعه التفاهة، أي: سلطة التفاهة وهيمنتها، وهي المعركة التي خسرها جلّ المثقفين، لقد خسروا معركة التصدّي لـمدّ التفاهة التي اشتغل مُريدوها على نشرها بمسمّيات نابعة من عمق النيوليبراليةالـمـؤطَرةِ بنظريات العودة إلى السلف الأول وإثارة الغرائز الحيوانية لفرض الهيمنة وتبديد الإنسان الأعلى وإعادة فكر الإنسان الأدنى.

إنّنا أمام عائق كبير لخوض نقاش جاد حول مثالب السلطة وهفواتها، وهو عائق القابلية للفساد، نحن أمام عاهات جديدة لن تُفلح مهمة المثقف في إنقاذها لأنّها لم تعد تشكّل مصدر هموم المثقف  لأنّها مضطهدة، وإنّما صارت تُشكّل مصدر همّومه لأنّها تعيش انفصاما حادا ولا تعبّر عما تريده بالضبط، نحن أمام عاهات ستوكهولـمية.

إن المثقف في أيامنا هذه لا يجابه أيّة سلطة فعلية غير سلطة التافهين وهيمنتهم، ومعاركه ينبغي أن تتوجه صوب بناء جماهير تستحق أن يحمل همومها، ويعيش محنته بسببها مطمئنا. إن المثقف أمام لحظة مفصلية ينبغي أن يستعيد خلالها  أسئلة الطفولة الفضولية بعمق. تلكالأسئلة السرابية التي تتبادر إلى أذهان الكل ولا يُمعن التفكير فيها إلا الخاصة ليقدموا للبشرية بدائل وتقويمات عن طريق الهدم والبناء ثم التأسيس،

ينبغي أ لا نغفلأنّ ما آلت إليه أوضاع الجماهير اليوم نتاجُ تراكمات، تراكمات كمية أدت إلى تغيرات كيفية إيجابا وسلبا. لقد ورثنا عن أسلافنا ديانات وتقاليدا وعلوما ومعارفا وقصائد شعرية ونوتات موسيقية وقيما أخلاقية وقصصا بطولية وأنظمة حكم أضفينا عليها عناصر جديدة لمواصلة التحدي، تحدي استمرار الجنس البشري وردع الغرائز التي من شأنها أن تُسهم في فنائنا وتحدي الانتصار على المخاطر الطبيعية المحدقة بنا. هل تحقق ذلك فعلا ؟ هل انتصرنا على غريزة استعباد الآخر وإخضاعه لرغباتنا الخاصة ؟ من منّا لم يحلم بأن يصير مليونيرا ؟ من منّا فكر في أنّ الموارد كافية واحتكارها هو سبب البؤس والشقاء ؟  حينما نجد إجابات مقنعة لهذه الأسئلة نستطيع أن نُؤَمِّنَ للأجيال اللاحقة حقّها في اختيار سلطة تليق بطموحها، وقادرون على أن نجعل محنة المثقف مطمئنة.

عن أحمد الشيخاوي

شاهد أيضاً

“القضيّة الفلسطينيّة بحاجة إلى احتفاء شعريّ عربيّ” د.سامية غشير ـ الجزائر

لقد كانت القضيّة الفلسطينيّة تيمة رئيسة في الأعمال الأدبيّة العربيّة (الشّعريّة والنّثريّة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات