أخيراً دلفَ الشَّيْخُ العجوز إلى حوشِ الدَّارِ الكبيرةِ بعدما نزلَ من على ظهرِ الحمار دافعاً بكِلْتاَ رِجْلَيْهِ ومُنزلقاً بشكلٍ بطيءٍ نحوَ الأرضِ، وقد أخذَ بِطَرَفيِ اللِّجامِ لينحني إلى عُكَّازهِ الَّذي رماهُ قبل قليلٍ، وبعدها حاولَ أن يحملَ الكيسَ الثَّقيلَ، ورغم العجزِ الواضحِ في وجه الشيخ إلا أن الإصرارَ المغمُوس بقلبه جعل الحمل يرضخُ للكفِّ المعروقة، والكلابُ تنطُّ وتتنقل وتقفزُ حوله في سعادةٍ ووداعةٍ وترقُّب، ثم وضع الكيس جانبا وقبل أن يتربَّعَ على إحدى العتباتِ، تحلَّقَ حولهُ الأطفالُ والصِّبْيةُ الذين أمسكُوا بيدهِ يقبِّلونها، وهو منشغلٌ بفتحِ الكيسِ الورقِيِّ ليُعطِيهُم بجُماعِ يدهِ بعضَ الفولِ والحمص الهاري، بعدها تناولَ مِنديلاً يحتوي حبات حلوى ملونة، ووزَّعها عليهم بالتساوي، ورمى ما بقي منها في فمهِ، وقد تربع بجُمود جديرٍ بالجمادات، لقد انحلَّتْهُ السنون العديدة، وما كاد يرتاح قليلا، حتى بادرتْهُ إحدى زوجاتُ أبنائه مقبِّلةً يدهُ، مومأةً لهُ بأن يدخلَ الصَّالةَ حيثُ الرجالُ وبعضُ الضُّيوفِ مجتمعين هُناكَ…وإذا بابنهِ الأكبر وبعض أحفادهِ يهرعونَ إليه مقبلين وممسكينَ بيدهِ نحوَ الداخلِ، ويدهُ الأخرى لاتنفَكُّ عن عصاه، تذوبُ مُقلَتاه في نظرةٍ عميقةٍ كأنها الأخيرة، وقد إلتصَقَت يداهُ على عصاه.
جلس الشيخُ العجوزُ في ركنٍ قَصِيٍّ من الصالة الطويلةِ المعدة للضُّيوفِ، بعدما سلَّـم على الجماعة، متِّكِئاً ويداهُ مُشْتبِكتان على عُـكازه، ممَرِّراً بين الفَيْنَـة والأخرى كَفَّـهُ اليُمنى هُبوطاً وصعوداً عليها، ثم وضع ذَقنهُ عليها وكأنَّـه يحاولُ أن يفهمَ ما يحصلُ، أطلْتُ النَّظرَ إليهِ وجدتهُ فاقداً لبعضِ أسنانهِ، التَّـجاعيدُ احتلت من الوجهِ أغلبه… والعينان فيهما حزنٌ كامنٌ يحاولُ الإفلاتَ من أَسْرِالكِتمان، كان متدثِّراً بجلبابَيْنِ مختلفينِ لوناً، يَـبدُوَانِ مـن خلال فتحةِ السَّلهَامِ الأحمر القديمِ، رفع ذيلَ جلبابهِ الأسودَ، فظهر تحته ثوبٌ آخرُ أبيضَ اللَّونِ، دسَّ يَدهُ في جيب الثوبِ الثاني ثـُمَّ أخرجها مضمومة، فتح الكَفَّ عن عدة نقود عزلَ بعضها، وأرجعَ البقِيةَ إلى مكانها الأوَّلِ، ليناولها إلى الصبية والأطفال المتردِّدينَ هنا، كنت أحِبُّ قصصه، إقتربتُ منه، جبينهُ عَـارٍ من الشَّعَر وحاجبين كثيفين، ووجهٌ معَتَّم ذولحية شيباءَ مائلةٍ إلى حُمرَةٍ، وعـينين رماديتين، والعمامةُ التي تلتَـفُّ حَول رأسه لم تكن غيرخرقَةٍ إضافية بيضاءَ، لقد كان ذا حضورٍ وَقُورٍ، وكان يسخَرُ ويحبُّ البَسْطَ دون أن يُوَرِّطَ كرامتهُ أومروءَتهُ،كان يجلسُ إلى يسارهِ فتىً بِوَجْهٍ مستطيلٍ، يبدو أصغَرَ سِـنًّا خمْرِيَ اللَّوْنِ، في بَدانَةٍ بارزةٍ، يَـرتدي لباساً متأنِّقاً، هذا هو الضيفُ المُحْتفَى بِـه، والَّذي جاء إلى هذا الفِيلاَج عازماً الإستقرارَ به،لم يكنْ يعلمُ أحدٌ ما كان باستطاعتهِ أن يعلمَ، غير أن شيئاً غامضاً يختنقُ الآنَ، يتمرَّدُ ويستيْقِظُ داخلَ صدرِ الشَّيْخِ العَجوزِ بغير استسلامٍ، في هـذه الأثناء كان الكل يحتسي كُؤوس الشاي، ويتناولُ الحلوى والتمر والجوز واللوز في انتظار الطعام، سرعان ما تنهَّدَ العجوز ليتلفظَ بكلماتٍ وقد غَمْغَم طويلاً، لَم أفهَم منهُ شيئاً سوى“خَلِّي ناسْ لَبْلَى فْبْلاَهُم، لاتَرْفَدْ لاتْحَطْ مْعَاهُم، ولاَ شَفْتي الْوَادْ دَّاهُم، قُلْ الله يْكُون مْعَانا ومْعَاهُم“ ثم وكأنه يوجه كلاما لهذا الضَّيْف بقوله:”أَلِّي حَبْنا نْحَبُّوه، ونْدِيرُوهْ فُوقْ رَاسْنا عْمَامَة” لكن لا أحد إنتبه إليه أوأعاره إهتماما، لقد كانُوا منشغلينَ بضيفِهم. ثم تَنَحْنَحَ وكأنَّهُ يَعْزِفُ لحناً تَمْتَزِجُ فيه أَوْجاعُ الحيـاةِ وأشواقُها وعيناهُ مُغْمَضَتان، وقال:“ ليس الْعَجَبُ مِنْ وَرْدٍ في بُسْتان، إنما العَجب من وَرْدٍ في أعماقِ النِّيران“ لينفثَهُ في وجوههِم رداًّ على عَدَمِ إكتراثهم، ثم أردفَ عشيرة طيبة ومسالمة، وفكرتُ أنه يمكن أن يكون هذا الرجل الغريبُ غادراً، ولقد أَكَّدَ ظني ما قال الشيخُ العجوزُ ذلك اليوم وباستغرابٍ ضَئِيل…
وفي يوم آخرَ، ثمة لَغَطٌ وكأنَّه آتٍ من مَصْدَرٍسَحيقٍ، والأصواتُ متناثرة تُزَمْجِرُ باللَّعَنات والحديث عن الخداع والإحتيال، وكانت أصوات الكلابِ ممزوجة بلَغَطِ الناس الوافدة إلى هذه الْفِيلاَّ، الأشجارالوارفةُ تتَقاطرُ أريجاً، وكأنَّ النُّفوسَ الْمُمَزَّقَة المتَصَايِحة استيقظت من حلْم مزعج! حين وقفوا متزاحمين أمام بستان الغريب، ودائرةُ الزِّحَام تَكادُ تَخْنِقُ الأنفاسَ، مقاومة صيحاته وتهديداته، والتي تدعُو لكي يتراجعُوا ويعودُوا أدراجَهُم وإلى حَال سبيلهم وإلاَّ…وهوَ يُطِلُّ عَلَيْهمْ منْ أعلَى الشُّرْفَةِ المُمْتَدَّةِ طويلاً تَشِي بالمَكانَة التي يتمتَّعُ بها الآنَ، لقد جاء إلى هذا الْفِيلاَجْ وهو لايملكُ شيئاً، حتى استحوذَ على أغلبِ الأراضي، فقد تَصاهَرَ مع بعض أعيانِ البلدة، وصارت له كلمة ونفوذ،كما اكتسَب كل شيء، لما صار ممثلا لهم لما انتخبُوه، ولكن لم يحقِّق لهُم أيَّ شيء يذكر، وها هو يحملقُ طويلاُ، يلتفتُ يمينا فيديمُ النَّظرَ، يضربُ كفًّا بكَفٍّ عابساً، ثم يقلِّبُ وجهَهُ يساراً فيظل كذلك حتى يظهر أنه لن يعيدَ وجهَهُ إلى وضعهِ السَّوِيِّ قَطُّ، حالة من التَّظاهُرِ والتَّمثيلِ والتلاعُبِ بمشاعرِ أهْلِ البلدةِ، حَالةٌ شَحذَتْ الأنْفَاسَ وأطالتْ الآذان، ورَسَّخَت في الأعماقِ هَواجسَ التَّرقُب…وانعدامِ الثِّقَةِ أما الأحلامُ والمشاريعُ والإنجازات، فالتساؤلات هي نفسها، لاشيء تحقِّق! إستفاد الآخرون، أما الناس هنا، فها هو يطردُ معظمَهُم من هذه التعاونيات التي أنجـزها على أكْتافهِم، وقد شرَّدَ أُسَرهُم، وشتَّتَ أحْلامَهُمْ، واعْتَصرَ قُلوبهُمْ…، بعد التَّحايُلِ والسَّطْوِ على أراضِيهم، وها هو الضَّياعُ يَكتَنفُهُم، لقَد أبعـدَ القرِيبينَ، وقرَّبَ البعيدين، سياسة ولعبة أخرى للتَّمكُّنِ، فأولئك الذين يقطنونَ في أعالي الجبال استفادُوا، أمَّا هم في السَّفْحِ وعلى جانب الطريق بالسَّهلِ، فقد ظلوا كذلك، ولم يتحقق لهم أيُّ شيءٍ يُذكر، كانوا يتوسَّمُونَ فيه كلَّ الخير، لكن…! خابَ ظنُّهُم، كذب على الجميع واستلم مُقابِل ذلك أموالاً طائلةً….عندما رأيتهُ للمرَّةِ الأولى لم أُبالي به كثيراً، بل لم أكن مُرتاحاً إليهِ، مثلما الشيخ العجوز في ذلك اليوم، وقد قضى الشيخُ نحبَهُ منذُ سنوات، لكنـه مازال حاضراً، أتَذكرهُ بشغَفٍ كبيرٍ، وأتذكر ذلك اليوم، كصورة ماثلةٍ أمامي كما لو أنها تقعُ الآن…حين هَمْهَم بكلامٍ طويل، ولم ينتبه إليه أحد، وتنحنح ولم يبالي بِهِ أَحَدٌ أو يُعِرْهُ أَي َّ اهتمام، غفلة وشرود…، غشاوة شديدة أحياناً تطفئ نورَ البصرِ ولكنها لن تتمكن من أن تحجب نور البصيرة، فبالإعتبار تظهر الأسرار، وبقديم الإختبار يصح الإختيار، صرت أعلمُ الآن ماكان يقصده “إلى شَفْتِيهُم ضَحْكوا لينا، اعْرَفْ حاجَتْهُم فينا“، كما أدركت الآن ما كان يعنيه الشيخ العجوز بشيءٍ من الحكمةِ في ذلك اليوم لما قال:“احْضُوا مَلِّي جاكم يَتْلَوَّى ويَتْخَوَّى، سَدُّوا بِيه الكُوَّة، قْبَلْ ما يْسَدْها بِيكُمْ هُوَ“ لتكون عبرةً بعد ذلك، فَهل تُراها تَـنْفَع أم قد فات الأوان…؟!
لقد تركُوا السُّؤالَ بلا جوابٍ…وتركُوا الحِكَمَ تلوكُها الألسن في المناسبات وحين يتسامَرُونَ…، وأَوْدَعوها خربةً مُظلِمةً ترقبُ كلَّ قادمٍ وذاهبٍ ليُعيدَ نَسْجَها وبلوَرَتها …
ثُم انسحبتُ ضيِّقَ الصَّدْرِ، فقد كان المنظرُ بِرُمَّتهِ يوحي بجـوٍّ من العَبَثِ سواء من خلال زحام الناس، أوفي ملامِحِ وهيأةِ الغريبِ وهو يمْشِي ويجيء مُطِلاًّ من شُرْفَتهِ، ثم خَلاَ لهُ الجوُّ، فَصَارَ يجمعُ الناسَ من جديدٍ، ويدعُوهُم للوَحْدةِ، مهمتُه الأُخْرَى هُو الَّذي أَصْبَحَ لهُ شَأْن…!