“من التربية بالسنيما إلى التربية على السنيما: قراءة في كتاب السنيماالمغربية وتخوم التربية”جميلة حمداوي/المغرب

إن إثارة القضايا الاجتماعية في الأعمال الأدبية من حين لآخر ضرورة حتمية لنفض الغبار على البنيات المجتمعية، إذ يتطلب الأمر تفكيك البنى النصية، واستقراء الثيمات العامة وطرحها على بساط البحث، لتناولها من مختلف المنظورات المعرفية المتباينة (سيميولوجيا، سوسيولوجيا، فلسفيا…) وذلك من أجل  التشخيص والمعالجة.

وهذا ما حاولنا القيام به في قراءتنا لكتاب “خطاب السينما المغربية وتخوم التربية; بحث في الجماليات لكاتبه ” للكاتب إسماعيل الهواري.

يجمع الكاتب في هذا الكتاب، وهو يقارب الخطاب السنيمائي المغربي بين حقلين قد يظن البعض أنهما متباعدان، لكنهما ليسا كذلك في حقيقة الأمر، السينما (الجماليات) والتربية (البيداغوجيا) حقلان يساهمان بشكل أو آخر في تشكيل اللاوعي الجمعي، وخلق نمط العيش عبر مجموعة من القيم المبثوثة، حيث ركز الكاتب في كتابه على إثارة إشكالية نجملها في:  هل نمتلك تربية على الجمال فعلا؟ و هل نفكر جماليا؟ وهل تبث السينما، باعتبارها فنا جماليا، قيما تربوية؟

إن هذا الكتاب التفاتة طيبة من الكاتب في منظومة التربية والتكوين كان الغرض منها دمج السينما والفيلم التربوي داخل المنظومة، كما أنها دعوة صريحة للمخرجين والمنتجين لإنتاج أفلام تربوية تعيد لحقل التربية  مكانته بعدما تم – بقصد أو بغير قصد- تبخيس سمعة المشتغلين به وخاصة رجال التعليم ونسائه الذين يحتكون مباشرة بالناشئة.

دمج الكاتب بين جنسين مختلفين، جنس ينتمي إلى الجماليات (الخطاب السينمائي)  كجنس زاخر بالكم الهائل من الرسائل المشفرة، والسياقات الاجتماعية، والسياسية والثقافية، وجنس التربية التي تحيل إلى المجال البيداغوجي. والبيداغوجيا كلمة يونانية مكونة من شقين: (ped) وتعني الطفل agogie))، وتعني التربية، أي تربية الطفل، لهذا كان البيداغوجي مربيا، وهذا ما جعل الكلمة ترتبط بالمجال التربوي ولا ترتبط بالمجال المعرفي.

أثار الكاتب في كتابه، التأثير الذي تلعبه السينما كفن جمالي ينتمي إلى الخطاب الأيقوني الذي يتأسس على الصورة بمستوياتها المختلفة (اللساني، الأيقوني، التشكيلي) والتي تتسرب إلى اللاوعي الجمعي، فقوة الصورة تجعل سلطتها تفوق الجمالي إلى الأيديولوجي “أي تغيير، إلغاء، خلق أفكار جديدة ، بمعنى آخر، إنها  تجد دائما منفذا إلى المدرك الإنساني لتبث قيما جديدة وتلغي أخرى. هذا من جهة، من جهة أخرى فالخطاب السينمائي والتربوي يتواشجان في كونهما يحافظان على الترسانة التواصلية نفسها:

مصدرباثقناةإرساليةمرسل إليه
العلامة -تحليل الخطاب وتاريخه- امبرتو ايكو، ترجمة سعيد بنكراد

وقبل تحديد انتمائهما، فالسينما والتربية قبل كل شيء رسالة، وهذه الرسالة تحكمهما ضوابط وقوانين، كما أنهما يمران  عبر قناة تواصلية متماسكة، فالسينما تساهم في تشكيل الوعي الجمعي، تحدد  نمط الحياةle mode de vie : طريقة اللباس، وطريقة الأكل، والسلوكات الاجتماعية، وطريقة الكلام، وتسريحة الشعر، والموضة …، إنها تتحكم حتى بالتفاصيل الجزئية، فهي تروض الآخر، ولا تترك له الخيار، تصدمه عبر التوسط الإلزامي للصورة، والألوان، والملفوظ اللساني.

فمن المسؤول إذن  عن خلق سلوكات وتصنيفها ضمن ما يسمى “الأخلاق”؟  إنه التواضع الجمعي، والثقافة (ندرجها هنا مقابلا للطبيعة) بمعنى آخر إنها التربية ، وتعد من “أخطر الأجهزة الإيديولوجية للدولة التي تسير بواسطة الإيديولوجيا، وأحيانا بواسطة العنف، وتتركز أهميتها في اعتبارها أداة للحقن الأيديولوجي للإيديولوجيا السائدة وفي اعتبارها أيضا أداة لإضفاء الشرعية والعقلانية وتبرير الأوضاع الاجتماعية السائدة”[1]. ولهذا لا يمكن الحديث ” عن الموضوعية  في السينما، فهي ليست فنا من أجل الفن أو فنا من أجل التسلية، فهي بعيدة كل البعد عن منطق الحياد، يتعلق الأمر بما تفعله السينما فهي تلغي، تبث، تحدد، تقدم حلولا في المدرك الجمعي، وهي بذلك تشبه خطاب المدرسة أو المؤسسات الدينية، الإعلامية الترفيهية الذي لا يمكن أن يتصف بالحياد أو كما يسميه بيير بورديو PIERRE BOURDIEU  “وهم الحياد في النظام التربوي[2]“.

أشرنا من قبل أن السينما تعتمد على الصورة، وهي سلاح خطير، فهي تتجاوز الجمالي إلى الإيديولوجي، فلا تنحصر سلطتها في بث القيم الجديدة وإلغاء قيم قديمة، بل أضحت الآن تجعل من الفضيحة والطابو شيئا بديهيا مسموحا به ومألوفا بعد أن كان من “المحرمات”

إن الهم الذي يحمله الكاتب يجعله يتساءل عن الأفاق الممكنة للاشتغال بين السينمائي والتربوي من أجل التغيير وتحديث المجتمع. ومن مظاهر مساهمة السينما في تحديث المجتمع كون الخطاب السينمائي محمل بالدعوة إلى البحث العلمي، وهذه الدعوة حسب الكاتب استبطنت في كنهها التنكيل بكل الممارسات التي تستهدف رجالات التربية، وتضرب مجهوداتها ونضالاتها عرض الحائط وهو ما تعرضه مجموعة من الأفلام المغربية التلفزيونية والسينمائية كفيلم “غازيا” لنبيل عيوش، وفيلم “مول البندير” لإبراهيم شاكيري وفيلم “جوق العميين” لمحمد مفتكر وغيرها….

هذا يقودنا إلى القول، إن السمو والرقي والتحديث الذي ترومه السينما يتطلب منها أولا تحديث ذاتها قبل نية تحديث المجتمع، فالسينما حقل حساس، كما أنها لا يمكن أن تكون  فنا من أجل التسلية أو المتعة على حساب مجموعة من القيم التي يتم ضربها عرض الحائط، والتي هي نتيجة لسنوات من  النضالات والوعي الرزينين. وعلى أيّ، فنهضة السينما ووصولها إلى هذا العمق من الوعي القيمي لن يتحقق إلا بخطة شاملة ومحكمة محكومة بالوضع التربوي الثقافي والإعلامي.

وأكد الكاتب أنه لا يسعى إلى التبخيس أو التنقيص من قيمة السينما المغربية، لكنها غيرة باحث عليها لتغيير صورتها النمطية، والسمو بالوظيفة التي تضطلع بها وهي “التهذيب”. ويتمظهر ذلك من خلال النقل الذي تقوم به السينما، يتعلق الأمر بالنقل الديداكتيكي “الانتقال من المشاهد الاقتصادية (الحميمية) والسمو بها إلى اللحظة الأخلاقية السياسية بمعنى آخر الانتقال من الطبيعة (الغريزة) إلى (الثقافة).

وقد أولى الكاتب عناية بموضوع الطفل، وأثر السينما على نفسيته، وطرح إشكالات عميقة وواعية، ويتعلق الأمر هنا  ” بالسينما ومدى احترامها لواقع الطفل المغربي”.

إن البنية الإدراكية للإنسان تختلف حسب عمره، ومدى قدرته على استيعاب المواضيع المتاحة أمامه، وما دمنا نتحدث عن الطفل؛  فلا يمكن المساواة بين القدرة الإدراكية  للطفل والشخص البالغ القادر على تحليل ونقد كل ما ينفذ إلى ذهنه عبر التوسط الإلزامي  لمختلف العلامات اللسانية والأيقونية، لذلك فالطفل مهدد بالكثير من السلوكات التي تصل في بعض الأحيان إلى الاضطرابات النفسية، والسبب هو الاصطدام اليومي بالكم “الضجيجي” الأصوات، الصور، الألوان”…. كلها مسببات للتغيرات الفيزيولوجية والنفسية، ومن منا لا يتذكر واقعة أحد المشاهدين الذين كانوا يشاهدون مباراة كرة القدم، فإذا به يصاب بنوبة قلبية إزاء تسجيل هدف على فريقه المفضل”. المغزى من الواقعة أن الطفل ضعيف البنية، فهذه الترسانات التواصلية تؤدي إلى تقلص، تمدد العضلات ، خفقان القلب بشكل أسرع…

فمن خلال فيلم علي زاوا، شاطئ الأطفال الضائعين، جوق العميين، تم تصوير البنية الاجتماعية للطفل المغربي بواقع مهترئ، وممارسة خرافية، وعادات عرفية شاذة، ومادامت السينما انعكاسا متباينا للواقع، فهذا يستفز الوعي الجمعي المشترك ويجعلنا نطرح أكثر من سؤال حول الطفولة المغربية وشروط عيشها، وهل هناك طفولة بالمعايير المتعارف عليها؟، وكيف صورت السينما الطفل المغربي؟

يظهر الطفل المغربي في السينما المغربية من خلال تيمات متعارف عليها ضمن ما هو مشترك، إذ يأتي  في صورة الطفل المقهور بأبعاده الاجتماعية، الاقتصادية العاكسة للمجتمع المتخلف، وتارة يأتي في صورة  ” الطفل الحالم” حلم الطفولة المغتصبة، وتارة أخرى في صورة المتمرد الرافض لجميع أنواع العنف والسلطوية، وصور أخرى ” الطفل البدع، الكاوسي…”

إن إدراج الكاتب لموضوع الطفولة لم يكن اعتباطيا، إنها دعوة صريحة منه لإعادة التفكير وتجديد النظر  في الطفولة المغربية وجدوى الانضمام والمصادقة على الاتفاقيات الدولية والوطنية لحماية الطفولة المغربية.

كما أن إشراك السينما للمواضيع الاجتماعية وايلائها العناية بها يجعلنا نتساءل ” هل انفتحت السينما على المواضيع التربوية؟   وما موقف السينما من المدرسة والمتدخلين فيها؟

والصورة التي يتم بها تقديم رجل التعليم/المعلم(ة) في السينما بشكل خاص، وفي الإرساليات التلفزية (بشكل عام كالإشهار) تدفع حقا إلى الحسرة والأسى، من شريك كان من المفروض أن يبث (ما هو تربوي)، ويساهم بذلك في تغيير النظرة النمطية القصدية لرجال التعليم، في حين أنها بخستها أيما تبخيس.

ومن اللافت جدا للنظر أن السينما المغربية جعلت من رجل التعليم “أضحوكة” لمضاعفة الربح المادي، وقد ظهرت هذه الصورة النمطية في مجموعة من الأفلام “الخيل تسقط تباعا” للشريف الطريبق، وفيلم “الأستاذ” لمحمد علي مجبود، وفيلم “ألف شهر” لفوزي بن سعيدي، و فيلم “جوق العميين” لمحمد مفتكر، وفيلم “صدى الجبل” لعبد الله العبداوي، وفيلم “قسم8.”. إنها أفلام تلصق الصورة الدونية: القبح، والفقر، والنكوصية للمدرسة والمنظومة التربوية. إذ تلعب تقنيات الكاميرا (plongé) الهادفة إلى التصغير، والتحقير، والتقزيم، بالإضافة إلى المونتاج النغمي (الحزين) الذي يكرس (خيبة الأمل، الملل، الأحساس بالتحقير). هذه الصور جعلت الكاتب يتساءل : ألا يوجد في مدارسنا سوى الكبت، والحمق، والأستاذ المقهور، الضعيف الشخصية، البخيل، النكتة….؟

السينما تغير المواقف والسلوكات، نحو الأفضل، لكنها في المغرب لم تخدم هذه الفئة ولم تنصفها، بل صنفتها. وهذه دعوة صريحة إلى تأسيس سينما القيم، زالتربية. سينما بناءة ومواطنة.


[1] -حميد اتباتو;السينما والتربيةhttps://www.aljabriabed.net/n62 05tbatut.(2).

[2] -PIERRE BOURDIEU  and JEAN-CLAUDE PASSERON;reproduction in education, society and culture; translated from the french by richard nice;sage publication london1990; p195

عن عبد العزيز الطوالي

شاهد أيضاً

“النقل الديداكتيكي في التجربة الصفية مفتاح النجاح”يوسف اسونا ــ المغرب

يمكن الجزم أن العالم المعاصر منذ مطلع القرن العشرين ،يعيش تحولات جذرية في جميع المجالات كمجال العلوم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات