كفانا غشًا

أحمد أعنانا| المغرب

واقفًا ينتظر سيارة أجرة على الرصيف ليذهب لحضور ملتقى برواق وسط معرض الكتاب، تفاجئ الأستاذ علي وأنا أقول له “إلى أين ذاهب يا أستاذ”، يرد علي “إلى معرض الكتاب من فضلك”، مبتسما قلت له: “إنه قريب من هنا هلم بنا لأوصلك إلى وجهتك، رغم أنني ذاهب في الاتجاه الآخر”، دلف علي السيارة. مجرد دقائق معدودة وجد نفسه أمام بوابة المعرض، أراد أن يدفع الثمن الرحلة لكنني رفضت أمام استغراب علي، حيث قلت له: “من حقك أن تستغرب أستاذ فوسط هذا الكم الهائل من الغش والفساد يصعب أن نتقبل وجود الأنقياء” واسترسلت قائلًا:” كفانا غشًا يا أستاذ”.

ذخل علي ساحة المعرض وعدت ادراجي وتذكرت قصتي مع هذه السيارة حيث اقتنيتها من رجل يعتبر نفسه تقيًا وممن يتسابقون على الصفوف الأولى داخل المسجد. عندما أردت شراءها سألت مالكها وكان من الأصدقاء المقربين: “كيف هي حالة السيارة، أنا سوف آخذها من عندك، فقط إن كان هناك ما يستوجب الإصلاح أخبرني كي أقوم بإصلاحه، كما تعلم فسيارة الأجرة ملك للزبائن ولا أريد مشاكل معهم، كان رده وهو يقسم أن كل شيء فيها جيد ولم يسبق أن غير فيها أي شيء، فقط بها بعض الأوساخ وهناك صديق يعمل في محل غسل السيارات سيقوم بتنظيفها وتصبح صالحة لحمل الزبائن، تمت الإجراءات وأخذت السيارة، قصدت صديقه لكي ينظفها، قلت أن فلانًا أرسلني إليك أرجوك قم بغسلها جيدًا حتى تكون مريحة للزبائن، بوجه بشوش رد علي قائلًا عملنا أصلًا جيد وبما أنه أرسلك صديقي فلان فسوف أقوم بالواجب وأكثر لكن الثمن سيكون أغلى قليلًا، لا يهم الثمن فراحة الزبائن هي ما أريد، عد بعد صلاة العصر تجدني نظفتها بالكامل يقول صاحب محل غسل السيارات.

خرجت والمالك الأول للسيارة من المسجد لنجد صاحب المحل أمامنا قد أدى هو أيضًا الفريضة، بادره صديقي بالسؤال: “هل قمت بالواجب، كيف هي السيارة” رد عليه “سيارة رائعة أخي في الله، فليحمد الله صاحبنا أنه التقى في هذه الصفقة مع رجل طيب ويخاف الله مثلك” قال صديقي “شكرًا أخي في الله.” مرت عدة أيام وأنا أشتغل بالسيارة، عندما تم الإعلان عن الأيام التي سينطلق فيها معرض الكتاب أردت أن أقوم بتنظيفها بنفسي لأتفاجأ بوجود زجاج متراكم تحت المقاعد مما يدل على أن الزجاج الخلفي سبق وتكسر وتم تغييره، ووجدت خاتمًا ذهبيًا ثمينًا وسط الزجاج، في المساء.

أخبرت البائع بما حصل وأنني وجدت الزجاج والخاتم، فتلعثم في كلامه وبدا مرتبكًا. بعد إلحاح مني، اعترف أخيرًا: “نعم، حصل حادث بسيط للسيارة قبل أن أبيعها لك. تكسر الزجاج الخلفي خلال سرقة حاول فيها لص أخذ أغراض من السيارة.”

“ولكنك أقسمت أنها لم يسبق أن تعرضت لأي شيء!” رددت بغضب.

“كنت خائفًا أن ترفض الشراء… أعتذر عن ذلك.”

سألته عن الخاتم، فقال إنه لا يعرف شيئًا عنه. ربما كان ملكًا للص أو سقط من أحد الركاب.

بعد هذه المحادثة، توجهت إلى صديقه صاحب محل غسيل السيارات. عندما واجهته بما حدث، تردد قليلًا ثم قال: “أنا آسف يا أخي. صديقك طلب مني عدم إخبارك بحالة السيارة الحقيقية. كان يخشى ألا تشتريها إذا عرفت بالحادث.” ولكن لماذا لم تقم أنت بتنظيفها جيدًا لكنت وجدت الخاتم الثمين؟”

شعرت بخيبة أمل عميقة. هؤلاء الأشخاص الذين يتظاهرون بالتقوى في المسجد يكذبون ويخدعون بلا تردد! قررت أن أبحث عن صاحب الخاتم، فربما كان فقدانه مؤلمًا لصاحبه.

نشرت إعلانًا في الجريدة المحلية، وبعد يومين، اتصلت بي سيدة مسنة تسكن بحي راق في الرباط وهي من اصول فرنسية مسيحية الديانة. وصفت الخاتم بدقة وأخبرتني أنه كان هدية من زوجها المتوفى، وأنها فقدته أثناء ركوبها سيارة أجرة قبل شهرين.

عندما سلمتها الخاتم، غمرتني بالدعوات وقالت: “في زمن يسوده الغش والخداع، ما زال هناك أناس طيبون مثلك.”

ابتسمت وأنا أتذكر كيف أوصلت الأستاذ علي إلى المعرض دون مقابل، وقررت أن أواصل هذا النهج. فالصدق والأمانة هما سبيلنا للخروج من دوامة الغش التي أصبحت سائدة في مجتمعنا.

في نهاية اليوم، وجدت الأستاذ علي ينتظر سيارة للعودة من المعرض. توقفت أمامه وفتحت له الباب: “تفضل يا أستاذ، سأوصلك إلى بيتك.”

خلال الطريق، أخبرني أنه كان يقدم محاضرة في المعرض عن أهمية الأخلاق والقيم في المجتمع. ضحكنا معًا على هذه المصادفة وقال: “يبدو أن الله أرسلك لتكون مثالًا حيًا على ما كنت أتحدث عنه.”

نحن نعيش في زمن كثر فيه الغش والخداع، لكن بصدقنا وأمانتنا نستطيع أن نغير هذا الواقع، واحدًا تلو الآخر. كفانا غشًا… فلنكن القدوة التي نتمنى أن نراها في مجتمعنا.

شاهد أيضاً

وعد الآخرة

عبد الباسط الصمدي| اليمن على مر الحياة و الأقصى يناديناو بإذن الله بوعدالأخرة ماضونخيلنا للفرح …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات