“لغة التواصل التكنولوجي الحديث وثقافة مجتمع المعرفة”عمر الحاجي الدريسي/المغرب

الباحث: عمر الحاجي الدريسي.*
انبثقت فكرة المقال، امام إشكالية أولى، وهي الاستعمال اللغوي المُوَحّد والمتَعدّد، أثناء عملية التواصل التكنولوجي الحديث، والإشكالية الثانية، هو وُجود، أصحاب لغة واحدة أو أصحاب لغات مزدوجة أو متعددة، في قلب التطور الثقافي والتقني والعلمي الذي خلقته ثورة المعلوميات وتداول المعلومة، بلغات متعددة، بشكل لم يعد التحكم فيها بالأمر السهل ولا حتى مسايرتها بالأمر اليسير، مما جعل الإنسان في المجتمع المعاصر رهين المعلومة، فأصبح انتظار تلقي المعلومة، كمّن ينتظر تلقى الأوكسجين ليستمر في العيش وإلا أصبح الإنسان في خبر كان، لأنه أصبح على يقين، إن بقي حبيس معلوماته المُتقادِمَة، الغير المُسايِرة والغير المُستحَدثة، حسب اللحظة والمكان والواقعة، كأنه توارى إلى مقبرة الأحياء على هامش المجتمع، فما هو الأثر الثقافي المُستحدث مع آليات التواصل الحديث، الذي يُوسم بـ “الحديث” و “الحُرّ”، بالنظر إلى ما توفره الإمكانيات التكنولوجية والتطبيقات المعلوماتية والتواصلية المتطورة والمتجددة، الفاعلة في مجتمع المعرفة، والتي باتت المُؤطرة له بفعل الوجود بالقوة والدّفع بخلق الحاجة إليها؟
كلمات مفتاحية
فلسفة الثقافة التكنولوجية، ثقافة التواصل المعلوماتي، فلسفة شبكة الأنترنيت، ثقافة مجتمع التواصل، فلسفة مجتمع المعرفة.

يُعد موضوع “مجتمع المعرفة” من أكثر الموضوعات الجامعية والأكاديمية سخونة في وقتنا الحاضر، كما يُعد أُسُّ التركيز لجُهـود أطراف علمية ومعرفية متعـددة، بوجهات نظر متنوعة واهتمامات مختلفة، نظرا لتداخل اختصاصات تكنولوجيات التواصل الحديثة وعلوم اللغة والآداب والفلسفة وعلوم اجتماعية وعلمية وإنسانية أخرى في موضوع “مجتمع المعرفة”. فكرة المقال؛ أتت لتحاول وضع مقاربة لهذا التطور الثقافي والتقني والعلمي والهوياتي الإنساني الذي خلخلته الثورة التواصلية وثورة المعلوميات الشبكية، مما خلق ثقافة تواصلية ومعرفية لم يسبق التنبؤ بها قبلا ولا يمكن التنبؤ بمآلاتها المستقبلية أيضا.
وأصبح التحديث المعلوماتي يفرض نفسه لحظة بلحظة بين جميع مكونات المجتمع، وفي كل التخصصات: التقنية والحرفية والعلمية والخدمية، عن طريق خاصية التفاعل والتبادل والتواصل والعرض والمتابعة، مما خلق ما يسمى ب”مجتمع المعرفة”، وتحديث المعلومة، صار الرهان اللحظي، الذي منه تتشكل بداية تكوين الفكرة الإجرائية، بمعنى السبيل لتجويد البداية او تدشين أي فعل أو لمباشرة أي عمل مما سيُيَسّر الطريق نحو بلورة أفكار جِدّية مُتطورة تكون إحدى لبنات الفكر الحقيقي وبناء المعرفة الجديدة.
فلم يعد الزمن ولا المسافة حاجزا لانتشار الأفكار، فبفضل الشبكة التكنولوجية للتواصل والاتصال، وما تتوفّر عليها من بنية متراصّة، تربط فيما بينها عُقد ونقط متصلةً بمتواليات خوارزمية، تعمل وِفْقَ آليات إلكترونية بحواسيب وموزعات الشبكة وهواتف وأشخاص عينيون وافتراضيون ومؤسسات ورقائق اتصالية معدنية دقيقة، مُلتحمة ومُودعة بأماكن تتصل ببعضها البعض، وتتبادل المعلومات فيما بينها، بانسيابية لا تفتر، إنها الثقافة الجديدة، ثقافة مجتمع المعرفة التي يتداخل فيها الإنساني بالتكنولوجي.
مفهوم مجتمع المعرفة
يُعدّ مصطلح ” مجتمع المعرفة ” من المصطلحات الجديدة، التي بدأ يشهدها راهن الإنسانية ابتداءًا من العشرية الأخيرة من القرن المنصرم، كمصطلحات “العولمة” و”النظام العالمي الجديد” و”الثورة الرقمية” و”حوار الثقافات” أو “صدام الثقافات” وغيرها.
وعلى مستوى المفهوم يتخذ هذا المصطلح اتجاهين: أولهما عادي، يطلق على “جماعة من الناس تجمع بينهم اهتمامات فكرية أو أدبية أو علمية أو سياسية موحدة، فيتكتلون في مجتمعات معرفية مصغرة، يجمعون فيها ما توصلوا إليه من معارف ومعلومات وإنجازات وغير ذلك. أما ثانيهما، فهو أوسع وأعمق، حيث يشكل محورا أساسيا لدى العديد من الأطروحات السياسية والدراسات المستقبلية المتخصصة”.
ثقافة مجتمع المعرفة:

رغم تعدد التعاريف لمصطلح “الثقافة”، والذي يرتكر على اللغة والقيم والفنون والجماليات والعادات والطقوس التي تميز مجموعة بشرية ما، تجمع بينها كل تلك العناصر التي يمكن أن تنسج فيما بين أفرادها ومكوناتها الإثنية وحدة اجتماعية تميزها عن غيرها، ويعتبر الفرنسي ليفي شترواس (Claude –Levy Strauss) أهم من حدد العناصر الثقافية حيث يُورد في مؤلفه العرق والتاريخ: “إن الناس جميعاً وبدون استثناء يمتلكون لغةً وتقنيات وفنّاً ومعارف من النمط العلمي ومعتقدات دينية وتنظيماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، إلا أن هذه المقادير ليست دائما متماثلة في كل الثقافات”.
إلا أن المقصود من الثقافة مع المجال التواصلي المفتوح، هو ” كل الوسائل التقنية والأدوات المسخّرة لكسب وسائل العيش ودرء الأخطار من أي مصدر كان”، بمعنى أن الثقافة نسق، تعتبر اللغة المحور الأساسي للهوية الثقافية تلك، ليس لوظيفتها التواصلية البينية الآنية وحسب، وإنما باعتبارها الآلية المعرفية الأساس، والتي يُنقل من خلالها ما خزّنه الذهن، وما اختمر في الفكر من معلومات وأفكار عبر الأجـيال والحـقب، ويمكن للغة أن تتعـدد حسب ظروف كل مجتمع، لأنه ” يتعذر الحديث عن أحادية ثقافية ولغوية”، لأن الأحادية اللغوية تصدر حسب لويس جان كالفي (John Lewis Calvet) عن “عنصرية لغوية”، والانغلاق اللغوي يخنق الفضاء التواصلي ويحجم التطعيم الثقافي والتحديث المعلوماتي، وهذا ما لا يتماشى مع عصر الانفتاح التواصلي والتقنيات التكنولوجية الشبكية.
فانعدام التلاقح الثقافي والتحديث المعلوماتي يجعل الهوة أكبر، مما كانت عليه قبل هذا الزمن، ما بين افراد في مؤسسة نووية ناهيم عن مكونات المجتمع، فما أحدثته الثورة التكنولوجية وثقافة الاتصال الحديثة، وفّر من سرعة التلاقح الثقافي ووفر امكانية تحديث وتلقي المعلومات الجديدة بفضل وفرتها المُتاحة وتدفقها غير المنقطع، وهذا بالطبع ليس للجميع مع الأسف، بل لفئة نمتلك القدرات المعرفية والمهارات التقنية والامكانيات المادية وكل خلل في هذا المثلث فرض القهقرة. فما يشهده العالم، يعتبر من زاوية البناء الاستراتيجي للمستقبل الإنساني، مرحلة استثنائية، لإعادة الاعتبار للثقافة، خاصة وأنّ التطورات الجارية في البحث التكنولوجي وتطور لغة وثقافة الخوارزميات، فمثلما تنذر بمخاطر على على الهوية والألسن المحلية واللهجات واللغة الوطنية، إلا أنها تُبشّر بمستقبل جديد، إن على مستوى الإنجاز المادي، أو على مستوى الانجاز اللامادي الانساني، بفضل التقدم التكنولوجي الملحُوظ والمُتسارع سنة تِلو الأخرى، سواءٌ داخل مراكز البحث وخلايا تكنولوجيا المعلومات، أوفي برامج التنفيذ في مجالات التسيير والخدمات المؤسساتية والعمل الوظيفي.
لذلك أصبح مصطلح “ثورة المعلومات” و”مجتمع المعرفة” و”مجتمع الحاسوب” و”مجتمع ما بعد الصناعة” و”مجتمع ما بعد الحداثة”، و”مجتمع اقتصاد المعرفة” و”المجتمع الرقمي”، و”الإبداع الرقمي”، و”الأدب الرقمي”، و”اللسانيات الحاسوبية” وغيرها من المصطلحات الرئيسية، والمميزة لحقبة تاريخية هامة من تاريخ الفكر البشري ورهانات المباحث الفلسفية والاختصاصات العلمية المعاصرة، والذي عكسته اللغة المستعملة بين الأفراد في كل مجتمع، و اللغة جزء من المجتمع، أي ” أن اللغة صيرورة اجتماعية. (..) اللغة صيرورة مشروطة اجتماعيا، أي مشروطة بالجوانب غير اللغوية من المجتمع”، أي التطورات التي تحدث بفعل التقدم التقني والاجتماعي ” ، وبالتالي: فما تحقق من الطفرة المعرفية الكبرى، والتي انعكست -على غير سابقاتها- على الفرد مباشرة، بما وفرته له من إمكانيات تقنية وتكنولوجية، حتى يكون مواكبا لها، ومتفاعلا فيما تعرضه عليه، سانحة له الفرص، مانحة له المجال، أن يصبح مُستثمرا لما تقدمه وتعرضه، وبالتالي، لا أن يبقى حبيس الاستهلاك ومقتصرا على الاستعمال، مما سينعكس عليه بالإيجاب، كذات وكثقافة وكهوية وكبناء معرفي، في أن يصبح فاعلا بفضل الثقافة التكنولوجية، مُتفاعلا بها مع مجتمع المعرفة.
إيتيمولوجيا المعرفة التكنولوجية:
يعتبر الفيلسوف غاستون بشلار (Gaston Bachelard)، من بين أهم الفلاسفة أو لنقل الشعراء وكذا العلماء المختصين، ممن اختمرت تجربتهم ومعارفهم، لينذروا مُؤرخي تاريخ الأفكار وتاريخ العُلوم، إلى إمكانية التجاوز، وليس وقوع “العود التاريخي / التاريخ يُعيد نفسه” كما نبه لذلك فريديريك نيتشه، حيث يقول بشلار: ” يفترض أساسا معرفة المؤرخ بالقيم العقلية المهيمنة والفاعلة في الفكر العلمي المعاصر، مع اعتبار أن ما هو علمي وراهن اليوم سيصبح متجاوزا بعد ذلك”، أو كما اعتقد صاحب تطور نظرية المعرفة، السويسري جون بياجي (Jean Piaget)، إذ يـقول: ” يظهر أنه مما لا جدال فيه أن أكبر المذاهب في تاريخ الفلسفة.. تنحدر من تأمل إما في الاكتشافات العلمية لأصحابها أنفسهم، أو في ثورة علمية خاصة حدثت في زمانهم أو قبله بقليل: هكذا كان الأمر فيما يتعلق بأفلاطون مع الرياضيات، وأرسطو مع المنطق والبيولوجيا، وديكارت مع الجبر والهندسة التحليلية، وليبنتز مع حساب اللامتناهيات، وتجريبية لوك وهيوم وتمهيدهما لعلم النفس، وإيمانويل كانط Kant Immanuel مع العلم النيوتوني وتعميماته، وهيغل Hegel والماركسية مع التاريخ وعلم الاجتماع، إلى أن نصل إلى إدموند هوسرل Edmund Hussrel مع المنطق الرمزي كما هو عند فريكه.”.
وعلى عكس بياجي، يُلاحظ، آخِر فلاسفة مدرسة فرانكفورت، يورغن  هابرماس (Jürgen Habermas)، بـأن كانط (Kant)، هو من حاول التأسيس الفعلي لنمط جديد في الفلسفة، لاسيما وأن زمنه حمل تطورات معرفية، ظهرت خصوصا في مجال الفيزياء، فكان اهتمام الفلاسفة بذلك، ليس لأن الأمر يتعلق بشيء حدث في التاريخ، بل لأن هذا التقدم يثبت القدرات على الإبداع والتقدم في تحصيل المعرفة. ولهذا السبب ” حاول كانط تأسيس نظرية تراسندنتالية Transzendental للمعرفة، وبناء ميتافيزيقا على غرار النموذج الفيزيائي”.
إلا أن هابرماس في كتابه” المعرفة والمصلحة”، و في كتابه” التقنية والعلم كإيديولوجيا”، تناول العلاقة بين المعرفة والمصلحة، على عكس ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذي تناول علاقة المعرفة بالسلطة، حيث أبرز هابرماس من خلال تحليله الأركيولوجي لنظرية المعرفة في الفلسفة الغربية، أن هناك ثلاثة أنماط من المعارف، تقابلها ثلاثة أنماط من المصالح، فإلى جانب المعرفة التحليلية التجريبية، والتي تقابلها المصلحة التقنية، نجـد المعرفة التاريخية الهيرمنوطقية، تقابلها المصلحة العملية، وأخيرا العلوم النقدية : كعلم الاجتماع النقدي، والتحليل النفسي، لنجد المصلحة التحررية émancipatrice، وفي هذه المصلحة الأخيرة، تجد الفلسفة مكانتها عند هابرماس، وهي فكرة استمدها من “أدورنو”، لأن الفلسفة بحكم خاصيتها التأملية، ترفض المصلحة التقنية وترفض كل تشييء للإنسان، دون أن ننسى فلسفة وليام جيمس وجون ديوي ونظريتهم البرغماتية، التي مقياسها، هو ما مدى نفع الشي وليس تشييء الانسان، لكي لا نخلط بين نفع الشيء أي براغماتيته وبين تشييء الانسان وجعله شيئا أي براغماتيا للآخر.
تاريخ المعرفة وثقافة التنوير الاجتماعي:
إن تاريخ المعرفة، لهو بالمقياس نفسه تاريخ الانسان من حيث معرفة أصول بداية تطوره الاجتماعي، وبالتالي فالإنسان إذا نظرنا إليه من ناحية المعرفة والتاريخ فهو كائن متطور بالضرورة، لهذا نلاحظ بأن المعرفة تتغير مع الزمن دائمة الدينامية مُتواترة النمو، مثل الكائن البيولوجي أو الاجتماعي، إن صحّ القياس. حيث تزداد المعرفة دائما وتتحسن، بالتدريج، دون هوادة، و إذْ يُشير دوركايم إلى أن تاريخ المعرفة هو عملية تنوير: ” والتنوير مفهوم يستخدمه دوركايم في أمثلة محددة حول النُّصُوع. لكنه مفهوم يلخص جيدا نظريته في تاريخ المعرفة. ويعني عنده التعليم: توضيح وتبيان لموضوع ما، حل اللغز، نمو لحقيقة ونشرها. إنه اكتمال المعرفة عبر الزمن، وبالفعل تحتوي هذه العملية الشاملة-عملية الاكتمال- على عدة عمليات أخرى. فالمعرفة عنده تنتقل شيئا فشيئا إلى مرحلة العلم بكل شيء، حيث تنتقل عناصرها الثلاثة إلى الاكتمال شيئا فشيئا. كما تترقى ذات المعرفة إلى الكمال. وينمو موضوع المعرفة في الاتجاه ذاته، بل وكذلك العلاقة الحاصلة بين الذات والموضوع.”.
تلك العلاقة هي التي تُشكّل نواة بداية نظام المجتمع، الذي بسببية تلك النواة، يصير نظاما حتميا، وكذلك حال التحول المعرفي الفردي والاجتماعي، الذي يتحقق بفضل تحول الوعي الفردي إلى وعي جمعي. والواقع أن المعرفة التي يمكن بوصفها ترنو إلى أن تكن “معرفة مكتملة”، “هي المعرفة الذاتية للبشر على يد البشر، والوعي الذاتي للإنسانية”، والعلم دوما يبقى مفكك الأوصال ولو ببعض الجزئيات يبدو غير ذلك وعليه يعتبر غير مكتمل، لأنه يزحف ببطء ولا ينتهي أبدًا؛ لكن حاجيات الحياة لا تنتظر، ولذلك فإن النظريات المهتمة، والمكرسة ليوميات البشر وعملهم “مضطرة لأن تتجاوز العلم وتكمله قبل الأوان”، لهذا وجدنا أنفسنا نقف بجدية الباحث لرصد ثقافة “مجتمع المعرفة والتواصل الحديث، للحاجة الملحة للمجتمع المعاصر، إلى تحسين آليات الاتصال أكثر وكيفية تجويد استعمال المعرفة أفضل، لتسيير أمور الفرد والمجتمع، ومعرفة الخلفيات والأبعاد على اللغة المحلية والهوية الاجتماعية، حتى يكون اتخاذ القرارات وتتّصف بالسليمة والرشيدة. فـ”ثورة التكنولوجيا والإتصال” أدّت إلى “الثورة المعرفية” ثم إلى “مجتمع المعرفة” الذي أصبح يعتمد – أساسا – على المعارف كثروة أساسية باعتماد اللغات المُعولمة، أي على خبرة الموارد البشرية وكفاياتها ومعارفها ومهاراتها في تلك اللغات كأساس للتنمية الإنسانية الشاملة، كما خلص إلى ذلك، عالم الإجتماع، الإسباني المولد، الأمريكي الجنسية، مانويل كاستلز Manuel Castells))، بأبحاثه المتميزة حول سوسيولوجية الإعلام، وخاصة “مجتمع المعرفة” التي يعتبرها البعض أهم مجهود فكري لفهم العالم المعاصر بعد كارل ماركس. ويعتبر مؤلفه (The network paradigm)، الذي يضم ثلاثة أجزاء، وهو مرجع أساسي في السوسيولوجيا المعاصرة، ويقدم أهم مقاربة لدراسة التطورات التقنية والسياسية والإقتصادية والإجتماعية التي أحدثتها “الثورة الرقمية” ، و”مجتمع المعرفة والإتصال” الذي هو نتاج “المجتمع الشبكي”، دائما حسب مانويل كاستلز.
هذه التطورات التكنولوجية، هي من أنتجت كل ما يشهده العالم من خلال ما تُقدمه هذه الثورة الحقيقية في عالم الاتصال، الأمر الذي جعل أفراد المجتمع يعيشون في ظل عالم تقني من كل زاوية ومن كل رُكن، إضافة إلى العيش في زمن موازي للزمن الحقيقي ألا وهو الزمن الافتراضي، مما أنتج لنا مُجتمعين في آن، لكن بأحداث متداخلة ومُتفاعلة مُتحكم في اليَسِير منها وغير متحكم في الغالب الأغلب منها، مجتمع نعيشه ومجتمع افتراضي نقتفي أحداثه ويقتفي وجودنا لنُراقب خوارزميا أردنا أم لم نُريد، هذا الجانب الافتراضي أخذ الاهتمام حتى بدى وكأنه يستنزف الكثير من الوقت، ومن بين أبرز جسور تلك الاهتمامات الافتراضية، عمليات التواصل الاجتماعي بجميع تطبيقاتها التقنية، التي وفرتها شبكات التواصل الاجتماعية على الانترنت، فكان للتواصل عبر هذا “العالم الافتراضي” أثره الكبير الثقافي على الهويات المحلية والبنيات الاجتماعية والمرجعيات الوطنية والاعتقادات الفردية وعلى الترابط النووي والمؤسساتي الاجتماعي داخل المجتمع الواحد والعائلة الواحدة.
فلسفة التواصل الحديث والتفاعل مع المحيط والفضاء:
تتجلى أهمية الاهتمام بفلسفة التواصل إلى علاقتها التأملية والتنظيرية فيما يخص محاولة معالجة النزعة إلى التفكك لدى عدد من الهويات التي حُوصِرت بموجات الثقافة المُعولمة، ومقاومة الرغبة في التشظي والانحسار، التي تطال المرجعيات الثقافية، والتي تخص الفكر الغربي الذي يتوخى عولمة هوياته على حساب كل الهويات المجاورة في العالم الذي تجتمع فيه كل الهويات على اختلافها، وعاشت بهذا الاختلاف الذي استثمره الحكماء ليكون ثراء حضاري، ونَـفَـرٌ آخر استثمر في هذا الاختلاف مع الأسف ليجعله خلاف.
أما فيما يتصل بالقيم والمبادئ التي تأسست على يد أبرز فلاسفة ومفكري النهضة وعصر الأنوار. والتي استمر فيها النقاش إلى اواخر القرن العشرين وخاصة في عقد الستينات والسبعينات والثمانينات حيث بدأت الإرهاصات الأولى لأفكار معرفية أكثر تطورا بتحولات متشعبة تُلامس ما هو مادي وما هو لامادي، بمعنى ما هو اقتصادي وإنساني وبموجات سريعة، فأتت كذلك ضغوطاتها على غير المُعتاد فصارت مؤرقة للبعض وفرصة لمن يتحكم في تقنياتها التكنولوجية وآلياتها التواصلية ليقود العالم بالضرورة وينحو في ما يستفيد منه نحو العولمة الكونية التي لها حتمية العبور الى شعوب ودول بنموذج ما يرتئيه الممتلكون لتقنياتها التكنولوجية ونخص هنا بالذكر الرأسمال العالمي المهين الذي تقوده بعض المؤسسات العابرة ذات الرأسمال الليبيرالي.
لقد ًصُبغت أكثر المفاهيم الفكرية لما سُمي منذ عصر النهضة وعصر الأنوار بالحداثة والإنسانية وتُدافع عن أهميته مدرسة فرانكفورت النقدية ومدرسة شيكاغو، فالمشاريع التي لها خلفية ببناء الإنسان والأخذ بالعقلانية والرفع من منسوب الوعي والنزعة الإنسانية المؤمنة بالقيم والمساواة والعدل، بدأت تفقد لمعانها وقوة بريقها تقهقريا على المبادرات الآتية من الفكر الفلسفي، وحلّت محلّها بنوع من التمهيد والقبول لنزعات ذات نظرة تقول عن نفسها، أنها واقعية وبرغماتية، تتجاوز التقليد الحداثي الذي دشنه كوبرنيك منذ القرن السادس عشر وعمل على تكريس منهجه ديكارت وعَمّق عقلنته سبينوزا وجون لوك وليبنيتز و كانط.
غير أن بعد المفكرين الحداثيين والمعاصرين ومن أبرزهم، آخر مُفكري مدرسة فرانكفوت النقدية، الفيلسوف “يورجن هابرماس”، يعتبر بأن الحداثة، لابد وأن تعتمد “التحرر” و”التواصل المُتكافئ”، ودون “أي ضغط”، وهذا ما يؤدي إلى الأخذ بالحداثة التي تستلهم من العقل وهنا مرجعية هابرماس إلى الفكر الكانطي، والأخذ بنقد العقل او النقد الترسندنتالي. فإذا حاول هابرماس نقد الحداثة من داخل الحداثة، مُستندا الى أن العقل يستطيع أن ينتج نقدا للعقل من داخله وهو يرجع ليقوم بتحيين ما قدمه كانط حول نظريته العقلية النقدية، أي أن العقل نفسه، وبالنظر لقدراته حسب الزمن والمكان ومن حيث مستوى التفكير ومنهجية التفكير النقدي، يستطيع أن يقدم نقدا جديدا.
وإذا كان النقد أهم ما يميز ما بعد الحداثة عن لحظة الحداثة التي طبعها كانط بنقده وعمّقها هيجل إلى أن أخذ بها هابرماس في العصر الحالي، لكن هل هذا سينفي ما اتى به عصر النهضة وعصر التنوير وارجاع ذلك إلى أفكار القوة المهيمنة حينها، وأنها بعيدة كل البعد من الحداثة والتنوير الحقيقي، إذ يأتي أقطاب البنيوية الفرنسية بنظرياتهم وخلفياتهم ليقدموا تصورهم على أن كل ما سبق يمكن أن يَعتبر وَهم، وميشيل فوكو أرجع أهم أفكار الحداثة إلى بيكون ونظريته التجريبية كما أتى دريدا بمنهجه التفكيكي لكل ما هو قائم وأنَارهُ تحليل دولوز، كل ذلك بِقصد الخروج من الوهم او ما تبتغيه القوة القائمة او السلطة، توخيا للحديث عن شيء غير متسق وفوضوي، ولن يأتي بشيء غير المزيد من التشظي الذاتي والهوياتي والفوضى الإجتماعية.
أثر التواصل التفاعلي على ثقافة مجتمع المعرفة:
عَـرّف كُلُّ من إِلسون وبُويد (Nicole B. Ellison and danah m. boyd)، الشبكات الاجتماعية، بأنها: “مواقع تتشكل من خلال الإنترنيت، تسمح للأفراد بتقديم لمحة عن حياتهم العامة، وإتاحة الفرصة للاتصال بقائمة المسجلين، والتعبير عن وجهة نظر الأفراد أو المجموعات من خلال عملية الاتصال، وتختلف طبيعة التواصل من موقع لآخر”. وأيضا بأنها “مجموعة من المواقع على شبكة الإنترنت، ظهرت مع استعمال الجيل الثاني للويبweb 2) )، تتيح التواصل بين الأفراد فى بنية مجتمع افتراضي، يجمع بين أفرادها، اهتمام مشترك أو شبه انتماء (بلد – مدرسة – جامعة – شركة… الخ)، يتم التواصل بينهم من خلال الرسائل، أو الاطلاع على الملفات الشخصية، ومعرفة أخبارهم ومعلوماتهم التي يجعلونها مُتاحة للعرض. وهى وسيلة فعالة للتواصل الاجتماعي بين الأفراد، سواء كانوا أصدقاء نعرفهم في الواقع، أو أصدقاء عرفتهم من خلال السياقات الافتراضية”.
ولم يعد مصطلح “المجتمع الافتراضي” من المفاهيم التي تستوقف الانتباه عند سماعه، إذ أصبح ذا عمومية وانتشار، ليس حصرا على المستوى الاجتماعي أو التلقي المعلوماتي والتحليلات العلمية، ولكن أصبح مفهوما متداولا عند العديد من رواد مواقع التواصل ومستخدمي شبكة الإنترنيت. ويرجع تحديد المفهوم إلى هاوارد رينجولد (Howard Rheingold) الذى وضع مؤلفه الرائد فى هذا السياق بعنوان المجتمع الافتراضى “Virtual Community” والذى عرف المجتمع الافتراضى بأنه ” تجمعات اجتماعية تشكلت من أفراد فى أماكن متفرقة فى أنحاء العالم، يتقاربون ويتواصلون فيما بينهم عبر شاشات الكمبيوتر والبريد الإلكترونى. يجمع بين هؤلاء الأفراد اهتمام مشترك، ويحدث بينهم ما يحدث فى عالم الواقع من تفاعلات، ولكن عن بعد من خلال آلية اتصالية هى الإنترنت. حيث يشكل المجتمع الافتراضى مجال نمو الشبكات الاجتماعية، ويشكل الفضاء المعلوماتى -Cyber Space- الحيز والإطار الذى يتم فى سياقاته تجميع خيوط الشبكات الاجتماعية”.
إنّ “مجتمع المعرفة”، بوضعه المعرفة في قلب المعادلات الإنسانية والاجتماعية المتداخلة والمعقدة على اختلاف أنواعها، يشكل في نظرنا، فرصة تاريخية نادرة، ونقلة نوعية فريدة، تجعل من المعرفة أساس السّلطان والكسب والحضور المتميز والحياة الكريمة، كما أنّ “مجتمع المعرفة”، يجعل الحضور الذاتي غير منقطع بالامتداد الافتراضي متخطيا المسافة ومتجاوزا زمن الرحلة كما يضع الإنسان كفاعل أساسي بقوة التواصل المنساب في الزمن والحدث المطلوب، كل ذلك إنما يكون المُعين الأبرز لتطوير الإبداع الفكري والمعرفي والمردود المادي توخيا لضمان نصيب ما، لتأمين حاجيات العيش، كما أنه الغاية المرجوة من التنمية البشرية داخل المؤسسات ودواليب المجتمع لكون المؤلات البشرية أهم فاعل يُؤثر ويَتأثر ويُبدع لنفسه ولغيره بالانتماء المباشرأو غير المُباشر، من خلال شبكات التبادل والتخاطب والتفاعل، والتي اصطلح عليها “المجتمع الإفتراضي” أو “شبكات التواصل الإجتماعي”، إلا أن الهاجس ما يبقى دوما يحوم حول اللغة المحلية والهوية الثقافية، خصوصا وان المعرفة التقنية لا تهتم إلا بما يتماهى وما ترتضيه تيارات العولمة؟
*عمر الحاجي الدريسي، باحث في سلك الكتوراه، مختبر اللغة والمجتمع CNRST-URAC56.

المراجع:
أ- العربية:

  • دارن بارني، المجتمع الشبكي، ترجمة: أنور الجمعاوي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط 1، 2015.
    2- عبدالله تركماني، مجتمع المعرفة، مجلة الحوار المتمدن، العدد: 2552، 2009.
    3- محمد الوالي، الهوية الثقافية المفتوحة، مجلة ذوات، العدد 56، 2019.
    4- فيركلو نورمان، الخطاب بوصفه ممارسة اجتماعية، ترجمة رشاد عبد القادر، الكرمل: مجلة فصلية ثقافية، مؤسسة الكرمل الثقافية، العدد 64 صيف 2000.
    5- غاستون باشلار، تكوين العقل العلمي – مساهمة في التحليل النفساني للمعرفة الموضوعية، ترجمة: خليل احمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثالثة، 1986.
    6- نور الدين أفاية، الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة نموذج هابرماس، أفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية، 1998.
    7- جينيفير م. ليمان، تفكيك دوركايم: نقد ما بعد بعد بنيوي، ترجمة: محمود الكردي ومحمد حافظ دياب، المركز القومي العربي، الطبعة الأولى 2013.
    8- مانويل كاستلز،عصر المعلومات، الجزء الأول، مجتمع الشبكات 1998.
    ب- الأجنبية:
  • Claude –Levy Strauss, Race et histoire, ed Denoed Gonthier, 1966.
    2- John Lewis Calvet, La guerre des langues et les politiques linguistiques, PUF, 2002.
    3- Piaget (J), Sagesse et Illusions de la philosophie, PUF, Paris, 1972.
    ج- مواقع إلكترونية:
    4- Nicole B. Ellison and danah m. boyd, article “Social Network Sites: Definition, History, and Scholarship, Published online: 17 DEC 2007, the link : (http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1111/j.1083-6101.2007.00393.x/full), 20/06/2021.
    5- Howard_Rheingold, “Virtual Community”, Published online 1998. All rights reserved worldwide. The link: (http://www.rheingold.com/vc/book/), 20/06/2021.

عن عبد العزيز الطوالي

شاهد أيضاً

آدم و حواء     

منى فتحي حامد| مصر العلاقة الصادقة بوابة آدم وحواء إلى النجومية والإبداع بعيدا عن الغيرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التخطي إلى شريط الأدوات