– معيقات خاصة بالمرسل:
من أبرز مظاهر معيقات التواصل اللفظي ذات التأثير السلبي على المرسل ما يعرف باضطرابات النطق ( troubles de la parole) وتنتج عن صعوبة في إصدار الأصوات اللازمة للكلام بالطريقة الصحيحة؛ وذلك عن طريق الحذف أو الإضافة أو الإبدال أو القلب أو التحريف. وإلى جانبها هناك نوع آخر يسمى اضطرابات الصوت (troubles de la voix) وهي مجموعة من العيوب التي تصيب وظيفة الصوت بحيث تنطق حروف الكلمة بطريقة خاطئة أو غير مناسبة فيما يتعلق بعلو الصوت أو انخفاضه بشكل غير سوي، أو بطبقة الصوت، أو بتنغيم الصوت، فيصدر المتكلم صوتا غير نقي.
كما أن هناك اضطرابات خاصة بإيقاع الكلام وطلاقته، ولذلك يطلق عليها أحيانا اضطرابات الطلاقة، وتضم نوعين من الاضطرابات، هيا السرعة الزائدة في الكلام، واللجلجة، هذا بالإضافة إلى ما يعرف بالاضطرابات التعبيرية أو الأفيزيا، وهي مجموعة من العيوب التي تتصل بفقد القدرة على التعبير بالكلام أو بالكتابة، أو عدم القدرة على فهم معنى الكليات المنطوقة، أو إيجاد أسماء الأشياء أو المدركات، أو مراعاة القواعد النحوية التي تستخدم في الحديث أو في الكتابة ويمكن أن تتراوح شدة هذه الاضطرابات وخطورتها بين درجة طفيفة من اضطراب معاني اللغة، بحيث يكون الاضطراب غير ملحوظ، وبين الفقدان التام لوظائف اللغة ([1]).
وقد عرض الجاحظ هذه الاضطرابات التي تصيب النطق، وفصل القول فيها تفصيلا دقيقا، فبعد أن عرف اللثغة بأنها استبدال حرف التاء بالثاء، وذكر الحروف الأخرى التي تعرض لها اللثغة، قال: “وقال أبو عبيدة: إذا ادحل الرجل بعض كلامه في بعض فهو ألف وقيل بلسانه لفف […] ويقال: في لسانه حبسة إذا كان الكلام يثقل عليه ولم يبلغ حد الفافاء (من يردد الفاء) والتمتام (من يرد كلامه إلى التاء والميم) ويقال في لسانه عقلة إذا تعقل عليه الكلام ويقال: في لسان لكنة إذا أدخل بعض حروف العجم في حروف العرب وجذبت لسانه الحالي الأولى إلى المخرج الأول فإذا قالوا: في لسانه حكلة فإنما يذهبون إلى نقصان آلة المنطق وعجز أداة اللفظ حتى لا تعرف معانيه إلا بالاستدلال” ([2]).
– معيقات تتصل بالمرسل إليه:
كما تأتي معيقات التواصل من المرسل، فإنها تأتي أيضا من المستقبل، وتتمثل في ضعف سمعه، أو عدم انتباهه للموضوع الذي يحاول المرسل شرحه، أو لا مبالاته به…
– معيقات تتصل بالرسالة:
وتنتج عن عدم وضوح الرسالة أو عدم التعبير عنها باللغة المناسبة، أو الطريقة التي تجذب الانتباه إليها.
– التواصل غير اللفظي ((COMMUNICATION NON-VERBALE
يعرف “نولر” التواصل غير اللفظي بأنه: “ذلك الجزء من الرسالة الذي ليس هو الكلمات، ولكنه قد يرافقها أو يحدث منفصلا عنها، ويشمل التعبيرات الوجهية، والإيماءات والهيئة (الوضع والمسافة)، ونبرة الصوت، وطبقته، وارتفاع وسرعة الحديث…([3]) وبهذا فهو يشمل كل صور التواصل الذي يحدث بين الأفراد بدون استخدام ألفاظ أو كليات معينة، أي دون اللجوء إلى اللغة المنطوقة أو المكتوبة، إذ يكتفي باستخدام بعض الإشارات والإيماءات التي تنشر الرسالة.
“وإذا كانت اللغة كما يقول سوسير- نظاما من العلامات System of signs، أو ضربا من السلوك كما يقول بعض اللغويين مثل بلومفيلد، فإنها ليست النظام أو السلوك الوحيد الذي يستعمله الإنسان للتواصل مع غيره، فهناك أنظمة وأنماط سلوكية غير لغوية تصاحبها وتدعمها مثل التعبير الجسمي والتعبير الصوتي الذي يتمثل في نغمات الصوت التي تساهم في تحديد الكلمات، وإيقاع النطق وسرعته، ودرجة الصوت في ارتفاع وانخفاضه، والتجاور أو التقارب أي المسافة المتعارف عليها وتكون بين متكلم والمستمع، والتلامس الذي قد يكون بين المتخاطبين ودوره في تعزيز عملية التواصل” ([4]).
لقد اهتمت السيميائيات بالمعنى وليس مجرد رصد العلامات معزولة، فعلى الرغم من أن اللسان هو الأداة التواصلية الأساسية في التواصل الإنساني، فإن الإنسان غالبا ما يضطر لاستعمال وسائل أخرى تظل غير مباشرة كحركة اليدين وتعابير الوجه … ومرد ذلك أن الكلام لا يوصل أحيانا ما يرغب الإنسان في التعبير عنه، ولذلك يضطر إلى استعمال أنساق أخرى غير لفظية تحمل دلالات نفسية واجتماعية وثقافية.
ويعرف التواصل غير اللفظي أيضا بالتواصل الرمزي غير اللساني، وهو يشمل كل أنساق التواصل غير اللغوي التي هي: التواصل البصري، والتواصل السمعي، والتواصل الشمي، والتواصل الذوقي، والتواصل اللمسي. ومن هذا المنطلق سنعمل على التعريف بمختلف الأنساق التواصلية الموازية أو المعوضة لنسق اللسان.
– أنساق التواصل غير اللساني:
– النسق الشمي (Système olfactif)::
يعتمد الإنسان في تواصله اليومي على حاسة الشم التي تقوم بدور هام في عملية التواصل التي تتم عن طريق الروائح.
والجدير بالذكر، أن عددا كبيرا من مجالات التواصل تعتمد في اشتغالها على قدرة الإنسان الطبيعية على شم الروائع المختلفة التي يلتقطها لتصنيفها، ومعرفتها، ومنحها دلالة اجتماعية، أو اقتصادية أو إديولوجية ثقافية معينة…
إن أهمية هذه الحاسة تكمن في تحديد نوعية العلاقات الاجتماعية بين الكائنات البشرية، فعن طريق حاسة الشم يميز الإنسان بين في الروائح بين ما هو طبيعي (عرق)، وما هو اصطناعي (عطور)، كما يميز بين الرجل والمرأة، وبين الجسد الحي والجثة … والروائح بهذا المعنى وسيلة للتصنيف الاجتماعي مثلها في ذلم كثل اللسان.
وبواسطة التصنيف الثقافي له روائح، عمل الإنسان منذ القدم على رفض كل الروائح الأصلية والطبيعية (روائح الإفرازات، رائحة العرق…)، وأبتكر في مقابل ذلك العطر الذي يعمل على إزاحة الرائحة الطبيعية للكائن البشري([5]).
وبذلك تتحول حاسة الشم عن وظيفتها البدائية في التواصل، لأنها تعد إحدى الوسائل التي يعتمد عليها الطفل في التعرف على جسده أولا ثم على أمه والعالم المحيط به عن طريق الرائحة، إلى أداة للتمييز والتصنيف في المجتمع، ولذلك فالمرأة المضمخة بعطر عالي الجودة تسنشير حاسة الشم عند الرجل الذي يتبعها فيهديها وردة، أو يعرض عليها الزواج، أو… ([6]). وبذلك تشتغل العطور كأقنعة ناتجة عن التمثل الاجتماعي والثقافي للرائحة.
– النسق اللمسي (Système tactile):
يعتمد هذا النسق على حاسة اللمس كجهاز للاستقبال، ويعد نظام الكتابة عند الكفوفين (براي) نموذجا لهذا النسق؛ حيث إن هذه الكتابة تعتمد على حروف مكونة من نقط بارزة تستقبل عن طريق اللمس. وهي بذلك، تعوض حاسة البصر في القراءة.
يعد اللمس كما هي مع النسق الشمي- من الآليات التي يعتمدها الطفل للتعرف على نفسه وأمه وعلى العالم الخارجي المحيط به: كالإحساس بالرطوبة والبرودة والحرارة… يقول برنار توسان : “الرائحة هي أخيرا معرفة للجنسين، والرائحة لا توجد إلا كرائحة الجنس، العالم اللمسي يرتبط بعالم الجنس بواسطة المداعبات، وهو نظام سيميولوجي معقد وخالص في قانون العلاقات الغرامية”([7]). وبهذا المعنى يخرج اللمس عن وظيفته الأساسية (الطبيعية) إلى وظائف أخرى إيديولوجية وثقافية مرتبطة بالحقل الثقافي الخلفي والمعايير والنظم الاجتماعية لكل مجتمع.
– النسق الذوقي (Système gustatif):
يقوم الذوق بدور هام في مجال التواصل الإنساني والحيواني على حد سواء. ويتم هذا النوع من التواصل في الأصل عن طريق الفم وخاصة الشفاه واللسان؛ فحاسة الذوق عند الإنسان والحيوان واحدة، هي الحاسة التي ندرك بها الأطعمة المختلفة ونميز بعضها عن بعض، وهي بذلك قوة طبيعية يصنف بها الكائن الحي الطعمة إلى طيبة وقبيحة….
فالطفل الرضيع مثلا يحس بنوع من الدفئ وذوق حليب الأم عن طريق اللمس الفموي المباشر لثدي الأم، إذن فالأصل في هذا النسق أنه غريزة فموية. إن الذوق على هذه الشاكلة: شكل من المعرفة المباشرة أو التلقائية التي تضمن للحيوان، وللإنسان، قدرا من الإدراك لمحيطه، والتعرف عليه أي التكيف معه”([8]).
لقد تحول النوق من الناحية الثقافية إلى “ملكة للحكم على الجميل، والقدرة التي تكونت لدينا لإدراك ما هو جميل، للإحساس به وتمييزه عن القبيح”([9])؛ فعن طريق هذه المكلة نستطيع الحكم على الأشياء والأفكار في العالم: الروائح، الأطعمة، المنتوجات… بالجمال أو القبح في جميع الحالات وفي جميع الثقافات على اختلاف الزمن. يقول الميلودي شغموم: “إن الذوق نتاج الثقافة أي تربية خاصة عندما نحصره في المجال الفني فقط، إنه تقوية وتهذيب لحواسنا وخاصة السمع والبصر، وفي هذه الحالة فإنه يتحرر من ارتباطه الأصلي بالفم واللسان ليشمل كل الحواس بل كل الذات”([10]).
– النسق الإيماني (système kinésique):
سبقت الإشارة إلى أن العملية التواصلية يمكن أن تتم بطرق أخرى غير الكلام، الحركات والإيماءات؛ فعندما لا نستطيع أن تعبر عن كل ما يخالجنا من مشاعر وأحاسيس… نلتجئ إلى اعتماد الإيماءات والإشارات التي ترفع عنا الحرج، إذ تتدخل كبديل عن الكلام الذي يدخل في الطابوهات الاجتماعية؛ أي ما يحرم قوله بالألفاظ بحكم الأخلاق والتقاليد السائدة، ومثال ذلك الإيماءات التي ترمز للاتصال الجنسي والعادة السرية… وكل ما له علاقة بالجنس.
ولذلك وجه السيميائيون اهتمامهم نحو دراسة الإيماءات بوصفها سلوكا دالا ووسيلة من وسائل الاتصال غير اللساني. إن هذا التواصل الحركي – الإيمائي عبارة عن قناع إديولوجي حيث إن “هذه الإشارات تعمل على حجب وكتمان الكلمات التي تخضع للرقابة الاجتماعية تحت إشارات تعوضها وتأخذ وظيفتها الدلالية”([11]).
وغالبا ما يمزج الإنسان بين الملفوظ اللساني والحركات الإيمائية، وهنا تتجلى العلاقة الوثيقة بين اللسان والحركات الإشارية لدرجة أننا في غالب الأحيان لا نستطيع الفصل بينها عندما يصدران عن ذات واحدة. وهنا تتضح علاقة الارتباط بين الاستعمال الاجتماعي اللسان والاستعمال الإجتماعي للجسد، يقول إدوارد طوماس هال: “الذين ينتمون إلى ثقافتين مختلفتين لا يتكلمون لغتين مختلفتين حسب، بل يسكنون عوالم حسية مختلفة”([12]).
تمتلك كل ثقافة أنماطا معينة من الإشارات والحركات… والدلالات التي تأخذها هذه الحركات ليست مولدة من هذه الحركات في ذاتها بل هي خاضعة للتسنين الثقافي الذي يمكننا من فهم ابتسامة خجل ونظرة متوسلة ونظرة جريئة… نتحدث عن نظرة العيون ونميز في ذلك نظرات مختلفة، ونتحدث عن حركة اليدين والقدمين، وكيفية الجلوس، واستجماع الأطراف أثناء الانتباه، أو التراخي على المقعد في حالة عدم الاهتمام، وكثرة الحركة والوقوف والجلوس في حالة الملل والضيق….
معنی ما سبق أن الإنسان بمجمع في حياته اليومية لركام من الرسائل التي لا تجسد قصدية مباشرة.
– النسق الأيقوني (Système iconique):
يسمي بورس Peirce “أيقونا كل أنظمة التمثيل القياسية المتميزة عن الأنظمة اللسانية”([13]). وإذا كانت الدلالة لا تكترث للمادة الحاملة لها([14]) فإنه بإمكاننا الحديث عن الدلالة من خلال الصورة التي تمكن الإنسان، بفعل الثقافة، من إعطتها دلالات معينة، وذلك لأن الصورة “لا تتحدث عن نفسها، ودلالتها تفوق شكلها التعبيري”([15]).
إن دلالة الصورة لا تأتي من الصورة ذاتها، أو بمعنى آخر، أن دلالتها ليست معطى جاهزا، بل يتم توليدها من خلال الأنساق المبنية التي تقوم باستعادة القيم الدلالية المحصل عليها من خلال الممارسة الإنسانية ذاتها([16])، أي إنها مرتبطة بالمعرفة السابقة التي يوفرها النسنين الثقافي، والاستعمال الإنساني الذي أودعها قيا للدلالة والتواصل والتمثيل.
وعلى هذا النحو يمكننا تقسيم التواصل غير اللفظي إلى ثلاثة أقسام هي:
- لغة الإشارات: وهي استخدام الإنسان لبعض الحركات في الجسم سواء كانت بسيطة أو معقدة للتعبير بها بدلا عن الكلام.
- لغة الفعل: وهي استخدام حركات معينة للتعبير عن أفعال يريد الفرد إيصالها للغير مثل الخبط على منصة الخطابة للتعبير عن التأكيد والحزم.
- لغة الأشياء: تعني استخدام الإنسان للأشياء المادية لأنها تحمل معاني مقصود توصيلها للآخرين مثل لبس الملابس السوداء دليل على مشاركة الآخرين في أحزانهم، أو لبس الملابس البيضاء الجديدة في المناسبات السعيدة لدى الآخرين([17]).
وتشير دراسات علم التواصل إلى أن الإشارات والعلامات يمكنها أن تقوم بدور في تكرار الرسالة المنوطة، وهو ما يسمى بحالة تكرار الاتصال اللفظي بغير اللفظي، كما أنه يؤدي أدوارا مساعدة، أو مدعمة، أو بديلة، أو مؤكدة، أو منظمة للتواصل اللفظي([18])، وإذا كانت الأدوار السابقة إيجابية، فإنه بالمقابل قد تقوم الإشارات بأدوار سلبية كقلب الحقيقة المنطوقة أو المجسدة، ففي الحالة قد يكون المرسل شيئا ثم يشير بحركة مناقضة له، كأن يتحدث عن الماضي وينشأ بيديه حركة تدل على المستقبل، أما في الحالة الثانية فكان يظهر الشخص أسنانه لغير تبسم.
أما أبرز خصائص التواصل غير اللفظي فيتمثل في كونه اتصالا وجدانيا صادقا في الغالب، حيث إنه ينبع من وجدان الفرد ومن داخله، دون تصنع، كما أنه يعبر عن المعاني التي يريد الفرد أن يوصلها للآخرين دون أن يخفي شيئا منها. وتعد تعبيرات الوجه أكثر وسائل الاتصال غير اللفظي شيوعا، وتتوافر له خاصية الصدق في معظم الأحيان، وقليل من الناس هم الذين يملكون القدرة على إظهار تعبيرات وجهية تتناقض مع مكونات أنفسهم، بل إن الذين يحاولون إخفاء ما بداخلهم كثيرا مما تفضح وجوههم خفاياهم في ظروف معينة، وبتأثير مواقف غير عادية أو غير متوقعة بالنسبة لهم.
على أن هناك بعض الحالات التي تصبح فيها الحاجة ماسة إلى التواصل غير اللفظي، لدرجة أنه قد يكون أحيانا من الخطأ عدم استخدامه؛ ففي التعليم قد تغني بعض الصور القليلة عن الكلام الكثير في إفهام الدرس ولا سيما إذا كان ذا طبيعة علمية، في حين تبقى نقطة ضعفه أنه أقل كفاءة في نقل المعاني على الوجه المقصود.
لقد سبق للجاحظ وأن خاض في قضايا التواصل غير اللفظي فتحدث عن الإشارة، ثم الحال، معتبرا أن “جميع أصناف الدلالات على المعاني من لفظ وغير لفظ خمسة أشياء لا تنقص ولا تزيد: أولها اللفظ، ثم الإشارة، ثم العقد، ثم الخط، ثم الحال التي تسمى نصبة”([19]). فاللفظ، والخط، والعقد، بالمنظور التواصلي الحديث تندرج جميعها ضمن التواصل اللفظي بشقيه، المنطوق ويضم الفظ، والمكتوب ويضم الخط والعقد الذي يعني الحساب. أما الإشارة، والحال فيقعان تحت مسمى التواصل غير اللفظي. يقول الجاحظ في الحيوان” ولا بد لبيان اللسان أمور منها: إشارة اليد، ولولا الإشارة لما فهموا من خاص الخاص، إذا كان أخص الخاص يدخل في باب العام، إلا أنه أدفی طبقاته، وليس يكتفي خاص باللفظ عما أداه كما أكتفي عام العام”([20]). و “نجد الجاحظ يشير أيضا إلى افتقار اللغة وحاجتها للإشارة كوسيلة مساعدة ومكملة للبيان والتواصل فإننا نجده في كتاب الحيوان يجعل مراتب البيان أربعة أقسام هي اللفظ والإشارة والعقد والخط. ونجد ابن رشيق يخصص بابا في كتابه العمدة يحمل عنوان الإشارة وينقل عن الجاحظ قوله: ومبلغ الإشارة أبلغ من مبلغ الصوت، وهذا باب تتقدم فيه الإشارة الصوت، كما ينقل قوله إن حسن الإشارة باليد والرأس من تمام حسن البيان باللسان”([21]).
ويرى الدكتور محمد العبد أن الإشارة عند الجاحظ “اصطلاح يتسع لجميع أشكال السلوكيات الحركية؛ كتعبيرات العين والوجه، والحركات الجسمية، والأوضاع البدنية الدالة”([22])، فالإشارة إذن بهذا المعنى تعد معادلا دلاليا للتواصل غير اللفظي الذي يتوسل بكل الإمكانيات غير اللفظية من أجل تبليغ رسالة ما.
ويمكن اعتبار النصبة وهي: كما قال الجاحظ: “الحال الناطقة بغير لفظ، والمشيرة بغير اليد. وذلك ظاهر في خلق السماوات والأرض، وفي كل صامت وناطق، وجامد، ونام، ومقيم وظاعن، وزائد وناقص…” ([23]) جزء من التواصل الذي يوسع مفهوم التواصل ليضم كل العناصر التي تسند إليها نية التواصل، من جاد وحیوان وغيرهما.
كما لم تفت الجاحظ الإشارة إلى التكامل بين التواصل اللفظي وغير اللفظي، ومساعدة الإشارة للفظ في أداء المعنى المقصود، وفي هذا الصدد جاء قوله: “فالإشارة والنظ شريكان، ونعم العون هي له ونعم الترجمان هي عنه وما أكثر ما تنوب عن اللفظ وما تغني عن الخط”([24])، وتعد هذه إشارة ذكية من الجاحظ فالتواصل اللفظي وغير اللفظي هما في حقيقة الأمر غير منفصلين، ولا يمكن لأحدها أن يستغني عن الآخر، “فالإشارة بالطرف والحاجب وغير ذلك من الجوارح مرفق كبير ومعونة حاضرة في أمور يسترها الناس من بعض يخفونها من الجليس وغير الجليس. ولولا الإشارة لم يتفاهم الناس معني خاص الخاص ولجهلوا هذا الباب البتة”([25]).
– رهانات العملية التواصلية :
حدد أليكس مكييلي (A. Mucchielli ) مجموعة من الرهانات التي تتضمنها العملية التواصلية وهي: الرهان الإعلامي، رهان الموقع، رهان التأثير الرهان العلائق والرهان المعياري([26]).
فالرهان الأول للتواصل هو نقل المعلومات، غير أن التواصل والإخبار قد لا يتلازمان، بسبب الرغبة في التلاعب بأفكار المتلقي وإغرائه([27]).
ويتمثل الرهان الثاني في لعبة التوقعات التي يقوم بها أطراف العملية التواصلية في إطار التفاعلات الاجتماعية من أجل “التحقيق الإخراج” (la mise en scene) الذي يهدف إلى بناء صورة للذات من أجل الآخر([28]).
أما الرهان الثالث، فيتعلق بالتأثير في الآخر وإقناعه، بل إغرائه وتمويه الحقيقة عليه بهدف جعله مشاركا في الرأي([29]).
وبخصوص الرهان الرابع، فهو يهدف إلى تنظيم العملية التواصلية، ذلك أن العلاقة بين شخصين تتسم في الغالب بعدم الاستقرار على مستوى السلوك، وبالصراع على المستوى العاطفي والفكري([30]).
والهدف من ذلك، هو ضمان استمرارية التواصل، والحفاظ على الرابطة الوجدانية التي تجمع بين المرسل والمتلقي([31]).
أما الرهان الأخير فيعد معیارا، لأنه يسعى إلى بناء مجتمع يمن بمبدأ الحوار والاختلاف، لأن التواصل في العمق، يهدف إلى بناء ما يسميه هابرماس (Habermas) ب “الفضاء العمومي “كفضاء للعلاقات الإنسانية القائمة على الاختلاف والحوار والتسامح([32]).
نخلص إذن إلى أن تحديد الرهانات يمثل عاملا مهما، يساهم في تفكيك سیورة التواصل، لأن التواصل لا يعني إرسال المعلومة كما أراده النموذج الكلاسيكي ل (شانون”([33])، من هنا اختلفت الآراء وتعددت حول هذه السيرورة، وحول تصنيف رهاناتها، ذلك أن الوضعية التواصلية لا تحتاج كلها منشط بكل ما في الكلمة من معنى، كما أنها لا تحتاج بكاملها إلى تقنيات، وهذا راجع إلى تعدد الوضعيات التواصلية، واختلاف أهدافها وسياقها؛ فالتواصل بين أستاذ وزملائه في حفلة آخر السنة الدراسية يختلف عن التواصل بين نفس الأشخاص في اجتماع تربوي[34].
وإلى جانب ما سبق، وباعتبار التواصل عملية اجتماعية بالأساس، إذ لا يمكن للإنسان أن يعيش معزولا عن مجموعة بشرية، فإن التواصل بقدر ما يسعى إلى تحقيق رهانات، فإنه يروم تحقيق أهداف معينة، وقد حدد دیفیتو (Devito) أهداف التواصل في خمسة أهداف، تتقاطع بشكل كبير مع بعض الرهانات التي سبق التطرق إليها، وتمثل هذه الأهداف في: الاكتشاف، والمساعدة، والإقناع، واللهو، وإقامة علاقة ([35]).
أما مي العبد فعلتها ستة أهداف هي: التوجيه، والتثقيف، والتعليم، والترفيه، والاجتماع، والإرادة([36]).
لائحة المصادر و المراجع :
– ديديية بورو، اضطرابات اللغة، ترجمة أنطوان الهاشم، منشورات عويدات، بیروت، لبنان، ط1، 1997، ص : 40.
– الجاحظ البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص ص: 38-39.
– محمد موسى أمين، الاتصال غير اللفظي، مرجع سابق، ص: 2.
– کریم زكي حسام الدين، الإشارات الجسمية دراسة لغوية لظاهرة استعمال أعضاء الجسم في التواصل، مرجع سابق، ص: 7.
– برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمد نظيف، افريقيا الشرق، ب.ط، 1994، ص : 21.
– بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ب.ط، 2003، ص: 20.
– برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمد نظيف، مرجع سابق، ص: 24.
– الميلودي شغموم، تمجيد الذوق والوجدان، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1999، ص: 5.
– المرجع نفسه، ص: 6.
– المرجع نفسه، ص: 6.
– برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمد نظيف، مرجع سابق، ص: 29.
– سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع سابق، ص: 91.
– برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، مرجع سابق، ص: 29.
– سعيد بنكراد، المعي بين التعددية والتأويل الأحادي، ضمن مجلة علامات، العدد 13، 2000، ص: 10.
– برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، مرجع سابق، ص: 32.
– سعید بنكراد، المعي بين التعددية والتأويل الأحادي، مرجع سابق، ص: 77.
– عماد حسن مكاوي وليلي حسين السيد، الاتصال ونظرياته المعاصرة، مرجع سابق، ص: 27.
– المرجع نفسه، ص ص: 28-29.
– الجاحظ البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص:76.
– کریم زکي حسام الدين، الإشارات الجسمية دراسة لغوية لظاهرة استعمال أعضاء الجسم في التواصل، مرجع سابق، ص: 36.
– المرجع نفسه، ص: 38.
– محمد العبد، العبارة والإشارة دراسة في نظرية الاتصال، مرجع سابق، ص: 146.
– الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص: 80.
– الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص: 78.
– المرجع نفسه، ص: 78.
– عز الدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، منشورات عالم التربية، ط1، 2002، ص: 64.
– المرجع نفسه، ص : 64.
– عز الدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، مرجع سابق، ص: 64.
– المرجع نفسه، ص: 65.
– المرجع نفسه، ص: 65.
– عز الدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، مرجع سابق، ، ص: 65.
– المرجع نفسه، ص:65.
– عز الدين الخطابي وزهور حوتي، التواصل نظريات ومقاربات، مرجع سابق، ص ص: 85-86.
– إدريس الذهبي، التواصل وفضاءاته، مرجع سابق، ص : 92.
– Devito, j. human communication: the basic course, 7 th edition longman, 1997, p 15.
– مي العبد الله، نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص.ص: 28-29.
[1] – ديديية بورو، اضطرابات اللغة، ترجمة أنطوان الهاشم، منشورات عويدات، بیروت، لبنان، ط1، 1997، ص : 40.
[2] – الجاحظ البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص ص: 38-39.
[3] – محمد موسى أمين، الاتصال غير اللفظي، مرجع سابق، ص: 2.
[4] – کریم زكي حسام الدين، الإشارات الجسمية دراسة لغوية لظاهرة استعمال أعضاء الجسم في التواصل، مرجع سابق، ص: 7.
[5] – برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمد نظيف، افريقيا الشرق، ب.ط، 1994، ص : 21.
[6] – بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ب.ط، 2003، ص: 20.
[7] – برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمد نظيف، مرجع سابق، ص: 24.
[8] – الميلودي شغموم، تمجيد الذوق والوجدان، دار الثقافة، الدار البيضاء، 1999، ص: 5.
[9] – المرجع نفسه، ص: 6.
[10] – المرجع نفسه، ص: 6.
[11] – برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، ترجمة محمد نظيف، مرجع سابق، ص: 29.
[12] – سعيد بنكراد، السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، مرجع سابق، ص: 91.
[13] – برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، مرجع سابق، ص: 29.
[14] – سعيد بنكراد، المعي بين التعددية والتأويل الأحادي، ضمن مجلة علامات، العدد 13، 2000، ص: 10.
[15] – برنار توسان، ما هي السيميولوجيا، مرجع سابق، ص: 32.
[16] – سعید بنكراد، المعي بين التعددية والتأويل الأحادي، مرجع سابق، ص: 77.
[17] – عماد حسن مكاوي وليلي حسين السيد، الاتصال ونظرياته المعاصرة، مرجع سابق، ص: 27.
[18] – المرجع نفسه، ص ص: 28-29.
[19]– الجاحظ البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص:76.
[20]– کریم زکي حسام الدين، الإشارات الجسمية دراسة لغوية لظاهرة استعمال أعضاء الجسم في التواصل، مرجع سابق، ص: 36.
[21]– المرجع نفسه، ص: 38.
[22]– محمد العبد، العبارة والإشارة دراسة في نظرية الاتصال، مرجع سابق، ص: 146.
[23]– الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص: 80.
[24]– الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، مرجع سابق، ص: 78.
[25]– المرجع نفسه، ص: 78.
[26]– عز الدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، منشورات عالم التربية، ط1، 2002، ص: 64.
[27]– المرجع نفسه، ص : 64.
[28]– عز الدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، مرجع سابق، ص: 64.
[29] – المرجع نفسه، ص: 65.
[30] – المرجع نفسه، ص: 65.
[31] – عز الدين الخطابي، مسارات الدرس الفلسفي بالمغرب، حوار الفلسفة والبيداغوجيا، مرجع سابق، ، ص: 65.
[32] – المرجع نفسه، ص:65.
[33] – عز الدين الخطابي وزهور حوتي، التواصل نظريات ومقاربات، مرجع سابق، ص ص: 85-86.
[34] – إدريس الذهبي، التواصل وفضاءاته، مرجع سابق، ص : 92.
[35] – Devito, j. human communication: the basic course, 7 th edition longman, 1997, p 15.
[36] مي العبد الله، نظريات الاتصال، مرجع سابق، ص.ص: 28-29.
عبور ثقافية جامعة