د. عبد العزيز الطوالي| المغرب
Some Aspects Of Qur’anic Intertextuality In
Badr Shakir al-Sayyab’s Poetry
Abdelaziz Et Toualy[1]
Mohamed Guennouni[2]
Abstract
The Iraqi poet Badr Shaker Al-Sayyab was one of the most prominent and contemporary poets had employed religious intertextuality. The holy Qur’an in particular was constituted as the bulk of his concern, which helped him to explode his creative energies, and build a new poetic view towards the world and life, .As wel as criticize the bitter Arab reality through his interaction with the Qur’anic text
This research aims at highlight some aspects of Qur’anic intertextuality in al-Sayyab’s poetry, by presenting and analyzing some passages of his poetic work, as examples of Qur’anic intertextuality.
Key words: intertextuality, Quranic intertextuality, poetry, absorption.
من مظاهر التناص القرآني في شعر السياب
عبد العزيز الطوالي[3]
محمد كنوني[4]
[1] University of Sidi Mohamed Ben Abdallah/ Morocco
[2] University of Sidi Mohamed Ben Abdallah/ Morocco
[3] جامعة سيدي محمد بن عبد الله/ المغرب
[4] جامعة سيدي محمد بن عبد الله/ المغرب
الملخص:
يعد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب واحدا من أبرز الشعراء المعاصرين الذين وظفوا التناص الديني، حيث شكل القرآن الكريم على وجه خاص القسط الأكبر من اهتمامه، مما أسعفه على تفجير طاقاته الإبداعية، وبناء رؤية شعرية جديدة تجاه العام والحياة ونقد الواقع العربي المرير، وذلك عبر تفاعله مع النص القرآني عن طريق اجتراره أو امتصاصه أو محاورته.
ويروم هذا البحث إبراز بعض مظاهر التناص القرآني في شعر بدر شاكر السياب من خلال تقديم بعض المقاطع من منجزه الشعري كنماذج للتناص القرآني والعمل على تحليلها، وبيان أثرها في بناء رؤى الشاعر ومواقفه.
الكلمات المفاتيح: التناص، التناص القرآني، الشعر، الامتصاص.
المقدمة:
تعد الكتب الدينية المقدسة لدى الأديان الإبراهيمية الثلاثة: القرآن الكريم، والكتاب المقدس بعهديه (العهد القديم/ التوراة، والعهد الجديد/ الأناجيل) أحد أكبر الروافد، وأكثرها حضورا في التجارب الشعرية العربية عامة على مر العصور، ولدى رواد الشعر العربي المعاصر خاصة: وذلك بفضل ظهور المدرسة الرمزية كاتجاه أدبي فني بالغرب خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وبلوغ صداها إلى العالم العربي*(مندور، م. د.ت.ص.117)، وكذلك بسبب ما عانته الشعوب العربية من عذاب وظلم من جراء الاستعمار الإمبريالي الغاصب الذي اجتاح الأراضي العربية واحتلها، حيث ضاع الاستقرار، وطُمست الهوية الثقافية، وحورب الدين ومقدساته، سيما بفلسطين التي تحظى بمكانة عظيمة في قلوب المسلمين، فحيا الشعور الديني، وتنامى الحس الوطني، كما تزايد الاعتزاز بالذات أمام الآخر ، وانعكس كل ذلك في التجارب الشعرية المعاصرة.
ولهذا، فقد عاد الشعراء للنهل من نصوص هذه الكتب الدينية المقدسة وشخصياتها الدينية والنبوية، فالقرآن الكريم على وجه الخصوص حظي بالقسط الأكبر من اهتمام الشعراء، حيث مكنت هذه العودة إلى آيات القرآن الكريم الشعراء من تفجير طاقاتهم الإبداعية الدفينة، وبناء رؤية شعرية جديدة تجاه العالم والحياة والإبداع، وذلك من خلال تفاعلهم مع النصوص القرآنية بدرجة عميقة تتجاوز التقليد والاقتباس والاستشهاد، إلى امتصاصها والتحاور معها (بنيس، 1979، ص. 253)، وتشكيل موقف إيجابي أو سلبي من خلالها.
وينطلق هذا البحث من إشكالية أساسية تتمثل في: إلى أي حد يستحضر السياب النص الٌقرآني في شعره؟ وهل يعتمد على اجترار النص القرآني أم على امتصاصه أم على محاورته؟. وفي هذا البحث سنحاول قدر الإمكان الوقوف عند استلهام الشاعر العراقي بدر شاكر السياب للنص القرآني وبعض الشخصيات القرآنية، مع إبراز شكل التناص الذي يحضر بقوة في بعض نصوصه، وذلك من خلال تقديمنا لبعض المقاطع من منجزه الشعري كنماذج واضحة على التناص القرآني عنده بأشكال متعددة.
أولا: التعريف بالشاعر
بدر شاكر السياب شاعر عراقي ولد سنة 1926، في مدينة البصرة بالعراق، عاش يتيم الأم فكان لهذا اليتم وقع حزين على حياته، إلا أن هذا الحزن لم يقف عائقاً أمام بدر شاكر السياب الذي أكمل دراسته الثانوية، ثم انتسب إلى دار المعلمين في بغداد، ليدرس اللغة العربية، فقد كان شغوف بها، كما أنه درس اللغة الإنجليزية لتكون ثقافته مميزة وواسعة، وقد أنهى تعليمه الجامعي سنة 1948م.
شارك بدر شاكر السياب في كثير من المظاهرات والمسيرات الاحتجاجية الحاشدة، مما أدى إلى نفيه خارج العراق، وقد كان لهذا النفي الأثر الكبير في نفسه. توفي بعد معاناة طويلة مع المرض، ومحاولات للعلاج في أكثر من دولة، فقد تنقل بين بغداد وبيروت ولندن وباريس والكويت للعلاج، ووافته المنية في الكويت عام 1964.
ومن أهم دواوينه: ديوان “أزهار ذابلة” 1947، وديوان “أساطير” 1950، وديوان “منزل الأقنان” 1963، وديوان “المومس العمياء” 1954، وديوان “أنشودة المطر”1960، وديوان “المعبد الغريق” 1962، وديوان “فجر السلام”1974، وفي الترجمة الشعرية من أبرز أعماله: “عيون إلزا أو الحب والحرب”، وقصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث (الجبوري،2002، ص. 340).
ثانيا : التناص القرآني في شعر السياب
يقتبس الشاعر العراقي بدر شاكر السياب النص القرآني، ويعمل على تحويره، وبذلك يعمل على إحياء النص القرآني، وتغيير الحقائق الثاوية فيه لخدمة الموقف الشعري والمعنى المراد، إذ يقول(السياب، أنشودة المطر. 135):
أكاد أسمع العراق يذْخرُ الرعودْ |
ويخزن البروق في السّهول والجبالْ، |
حتى إِذا ما فضَّ عنها ختمها الرّجالْ |
لم تترك الرياح من ثمودْ |
في الوادِ من أثرْ . |
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر |
وأسمع القرى تئنّ ، والمهاجرين |
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع ، |
عواصف الخليج ، والرعود ، منشدين : |
” مطر … |
مطر … |
مطر … |
فالسياب هنا لا يسعى لنقل الحقيقة كما وردت في القرآن الكريم، بل يسعى إلى إحياء النص القرآني الذي يقول فيه الله تعالى: ﴿وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾(الحاقة: 5) . فمن المعلوم أن القوم المقصود بقوله تعالى هم قوم عاد لا قوم ثمود، إلا أن الشاعر حوّر اسم ” عاد ” باسم “ثمود” ليستقيم له الإيقاع الموسيقي من جهة، ويحافظ على القافية مع كلمة ” الرعود” الواردة في السطر الأول من جهة أخرى، كما يشير المقطع أيضا إلى كون الدمار يلحق الجميع، فالوطن/ العراق خيراته جمة، لكنها تذهب أدراج “الرياح” لغير أهلها، والرياح حلت محل الريح، ونعلم أن الرياح ترتبط بمعنى “الخير” كتحريك السحاب وتلقيح الأشجار، أما الريح فلا تأتي إلا بمعنى سلبي في القرآن الكريم، وكأن الشاعر باستبداله “الريح” الواردة في الآية القرآنية بالرياح يسعى إلى عقاب المتسلطين والمستبدين المحتكرين خيرات العراق وثرواته ومقدراته الثمينة، أي إزالة أيدي البطش والتسلط والظلم المنشوبة في كاهل الشعب، الناهبة خيراته، كما أزال الله قوم ثمود (عاد) في الزمن الغابر (عبد النبي عبد المجيد. م. 130).
ويوظف السياب النص القرآني وفق ما يناسب الشعور النفسي المضمر الذي يعيشه، وهو شعور مصطبغ بالخوف والدهشة، حيث يقول (السياب. ب.: الأعمال الكاملة 2016، ص. 332-333):
وتحت النخيل حيث تظل تمطر كل ما سعفه
تراقصت الفقائع وهي تفجر – أنه الرطب
تساقط لي يد العذراء وهي تهز في لهفة
بجذع النخلة الفرعاء تاج وليدك الأنوار لا الذهب
سيصلب منه حب الآخرين – سيبرئ الأعمى
ويبعث من قرار القبر ميتا هذا التعب
من السفر الطويل إلى ظلام الموت، يكسو عظمة اللحما
ويوقد قلبه الثلجي فهو يحبه يثب.
فالسياب أنهكه السفر الطويل والمرض، لذا فهو في حاجة ماسة إلى لهفة تهزه هزا كي يعود له الأمل، وتتجدد لديه دماء الحياة، فيستشعر روعتها، غير أن هذا يحتاج إلى معجزة عظمى، ولعل هذا ما جعله يستغل النص القرآني استغلالا واضحا بعيدا عن الاقتباس،(عز الدين إسماعيل، 2010. ص. 28) فقد استحضر في هذا المقطع من نصه قوله تعالـى: ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) ﴾(مريم: 24)، فالآية القرآنية قد أحدثت في النص الشعري مسارا نفسيا يتصل بما كان يعيشه الشاعر من أزمات نفسية بسبب ما تعرض له من محن قاسية كثيرة تمثلت في اليتم والنفي والمرض.
وعاد الشاعر إلى قوله تعالى﴿ وَقَالُوا أَ إِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49)﴾ (الإسراء: 49)، عندما اشتد عليه الواقع السوداوي المظلم، حيث لم يعد يرى أي أمل أو بريق للنور، فكانت أمنيته هي الموت قصد الخلاص من الحياة الدنيا التي ألقت عليه بقساوتها وعذاباتها الأليمة التي تجرعها باستمرار، إذ يقول(السياب: الأعمال الكاملة. 2016، ص. 68):
واستيقظ الموتى .. هناك على التلال، على التلال
الريح تعول في الحقول، وينصتون إلى الحفيف
يتطلعون إلى الهلاك
في آخر الليل الثقيل .. ويرجعون إلى القبور
يتساءلون متى النشور!!
والآن تقرع في المدينة ساحة البرج الوحيد
لكنني في الغربة الظلماء .. في الغاب البعيد
فالشاعر يعاني الغربة الظلماء القاسية، ويقاسمه إياها أهل المدينة كلها، وقد وظف معجما يدل على عظمتها وشدة هولها ( الموتى، الهلاك، الليل الثقيل، القبور، الغاب ..). أما عودته للنص القرآني الذي أشرنا إليه من قبل، فهي محاولة لمزج صورة المكذبين بيوم البعث بصورة من يتمنون الخلاص من الدنيا والموت “يتساءلون متى النشور”.
كما يلجأ الشاعر لامتصاص النص القرآني، فيحول البنية القرآنية إلى بنية شعرية عن طريق التقديم والتأخير (سليمة، وطهماس. 2012. ص. 94)، حيث يقول في المقطع الآتي مقدما الفعل “عسعس” في السطر الثاني(السياب. ب.: الأعمال الكاملة 2016، ص. 361):
أقضي نهاري بغير الأحاديث غير المنى |
و إن عسعس الليل نادى صدى في الرياح |
أبي يا أبي طاف بي و انثنى |
أبي يا أبي |
و يجهش في قاع قلبي نواح |
أبي يا أبي |
قدم الشاعر الفعل” عسعس” كي يغني المتلقي عن زمن النهار الذي يشعر فيه بالغربة، حينما يكون الناس منشغلين بقضايا الحياة اليومية ساهين عنه، بينما هو راقد بإحدى مستشفيات لندن يقاسي مرارة المرض، فالسطر الثاني يمتص قوله تعالى ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)﴾ (التكوير: 17 – 18).
كما يستلهم السياب القصص القرآني، وعن طريق القصة القرآنية يربط بين الواقع البعيد الذي يجسده التراث، والواقع الآني الذي تمثله تجربة حياته خاصة، والحياة المعاصرة عامة، وهذا ما نلاحظه في قصيدة “قالوا لأيوب”، وهذا مطلعها يقول فيه(السياب: الأعمال الكاملة 2016، ص. 164):
قالوا لأيوب: جفاك الإله |
فقال: لا يجفو |
من شدّ بالإيمان لا قبضتاه |
ترخى و لا أجفانه تغفو إلى أن يقــــول: |
سيهزم الداء: غدا أغفو (…) |
أسأل فيها الله أن يعفو |
يظهر بجلاء من خلال هذا التوظيف أن السياب عندما يوظف القصص القرآني يجعله ذا حلة واقعية تكون حياته فيها بارزة، حيث يأخذ “أنا” الشاعر المحور الأساسي الذي تتمحور حولها كل أنساق القصيدة ودلالاتها (عبد النبي عبد المجيد، ص. 132).
ويصور الشاعر نماذج من ضحايا الظلم والجهل والشرائع والشهوات في المجتمع العربي في قصيدته “المومس العمياء”، مستلهما فكرة السور/ بناء السد الذي قام به ذو القرنين للدفاع عن أقوام ضعيفة مؤمنة كانت معرضة للاعتداء من قبل قبائل شرسة همجية هي قبائل “يأجوج ومأجوج”، وهو يستحضر هذه القصة القرآنية لكي يمرر من خلالها موقفه الفكري والعاطفي الوجداني من المدينة، وعبر رمز المومس وما يترتب عن حياتها من أحداث مأساوية، يقول السياب(السياب: ، أنشودة الطر، ص. 156-157):
ليس الذين تغصَّبوها من سلالة هؤلاء
كانوا كآلهةٍ مقطَّبة الجباه من الصخور
(…)
هي والبغايا خلف سورٍ، والسكارى خلف سور
يبحثن هنَّ عن الرجال، ويبحثون عن النساء
دميتْ أصابعهن تحفر والحجارة لا تلين
والسور يمضغهن ثم يقيئهن ركام طين
نصبًا يخلِّد عار آدم واندحار الأنبياء
وطلول مقبرةٍ تضم رُفَات «هابيل» الجنين!
سور كهذا، حدَّثوها عنه في قصص الطفولهْ
»يأجوج« يغرز فيه — من حنقٍ — أظافره الطويلهْ
ويعض جندله الأصم، وكف «مأجوج» الثقيلهْ
تهوي، كأعنف ما تكون على جلامدهِ الضخام
والسور باقٍ لا يُثَلُّ وسوف يبقي ألف عام
لكن «إن شاء الإله«
طفلًا كذلك سمياه
سيهب ذات ضُحًى ويقلع ذلك السور الكبير
الطفل شاب وسورها هي ما يزال كما رآه
من قبل يأجوج البرايا توأمٌ هو للسعي!
إن المومس العمياء تتحول في النص الشعري – كما رأينا – من امرأة واحدة مسحوقة ومكلومة إلى أمة عربية بكاملها عمياء لا تبصر ما حولها من مآسي ونكبات، لم يقف الظلم عند استغلال الأجنبي لها، بل تجاوزه ذلك إلى العبث بشرفها وتحويلها إلى مومس مغتصبة، ومنتهكة منهوكة.
ثالثا : التناص مع الشخصيات القرآنية عند السياب
يعد السياب من الشعراء المعاصرين الذين وظفوا الرمز في قصائدهم مستلهمين شتى أنواع الرموز من التراث الأدبي والأسطوري والديني والتاريخي من مختلف الثقافات والحضارات، سيما القديمة منها، وما يهمنا في هذا السياق هو توظيف السياب للشخصيات الدينية الإسلامية في نصوصه الشعرية، وفيما يلي سنتناول استدعاء الشاعر لشخصية الرسول(ص)، وشخصيتي قابيل وهابيل.
- محمد صلى الله عليه وسلم رمز التغيير ونصرة الإنسان المظلوم
لعل أبرز ما استحضره السياب فيما يخص الرمز في شموليته للإنسان العربي(زايد علي عشري، 1997،ص. 78- 79)، هو استدعاؤه لشخصية الرسول (ص) بكل دلالاتها الرمزية المتمثلة في النبوة والرسالة والفعل والإيمان والتحدي، مادية كانت هذه الدلالة أو معنوية، حيث ساعدت الشاعر على كشف ما آل إليه الواقع العربي الذي يحيا في كنفه الشاعر ومجتمعه على حد سواء، من ترد وعالم مزر يحوم حوله شبح الموت، وذلك بغية خلق التواصل بيت موقفين متباعدين زمنيا ومكانيا ليضيء أحدهما الآخر. وهذا ما نجده في أحد المقاطع من قصيدة “مدينة السندباد”، حيث يستحضر السياب الرسول (ص)، ويحيله إلى شعلة ضياء تتوقد كي تنير دروب المسحوقين والمضطهدين؛ فيتمكنوا من كسر قيود من آذاهم وأذاقهم الذل والهوان والعذاب (النعيمي، أحمد إسماعيل، 2015، ص. 101 -102)، إذ يقول(السياب، أنشودة المطر، ص. 117):
محمد اليتيم أحرقوه فالمساء
يضيء من حريقه، وفارت الدماء
من قدميه، من يديه، من عيونه
فالشاعر جعل من السيرة النبوية في أبعادها الدينية والنفسية “معادلا دلاليا لحالة العربي المعاصر، ولنفسه وذاته” (الزواهرة، ظاهر محمد، 2013، ص.262).
وفي مقطعين آخرين من قصيدة “في المغرب العربي” يقول في الأول منهما(السياب، أنشودة المطر، ص.62):
كمئذنة تردد فوقها اسم الله
وخط اسم الله فيها
وكان محمد نقشا على آجرة خضراء
يزهو في أعاليها
فالشاعر يستعين برمزية الرسول محمد (ص) قصد إعادة تقويم الحاضر المثقل بالهم والحزن والأسى، فهو ينزع إلى الماضي الثر لينطلق منه إلى غد مشرق جميل .
أما في المقطع الثاني فيحيل السياب على آذان الفجر باعتباره لحظة توحي بقرب انبلاج الصبح، أي اقتراب التحرر والاستقلال وانتصار الحق على الباطل، وهو أيضا صرخة مدوية توجه الثائرين ليستظلوا بهمة الرسول(ص) الذي لا يضل من اتبعه واهتدى بهديه، حيث قال في قصيدة “في المغرب العربي”(السياب، أنشودة المطر، ص.65) :
أ نبر من آذان الفجر ؟ أم تكبيرة الثوار
تعلو من صياصينا
تمخضت القبور لتنشر الموتى ملايينا
وهب محمد وإلهه العربي والأنصار
إن إلهانا فينا
- قابيل رمز للظلم والغدر، وهابيل رمز للحق والإنسان المضطهد
شكلت قصة “هابيل وقابيل” باعتبارها قصة دينية تجسد الصراع بين الأخوة، وما يرتبط بها من أحداث أهم القصص القرآنية، إذ سرد القرآن الكريم قصتهما في غير ما موضع. منها قوله تعالى : ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ ۖ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (29) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (30)﴾(المائدة: 29- 30). وقد شكلت هاتان الشخصيتان رمزين مهمين في الشعر العربي المعاصر، إذ أصبح “قابيل” رمزا للظلم والقتل والغدر، بينما شكل “هابيل” رمزا للحق والعد، ورمزا للمظلوم والمضطهد.
تأثّر السياب بقصة هاتين الشخصيتين واستدعاهما في شعره، إذ رمز بهابيل وقابيل إلى قوى الخير والشر في العلاقات الثنائية بين شخص وآخر. وقد استخدم شخصية قابيل دائما رمزا للجاني، بينما استعمل هابيل رمزا للضحية. والقارئ لقصيدة “قافلة الضياع” يرى أن السياب قد اتخذ من هابيل رمز اللاجئ الفلسطيني، أما قابيل فقد رمز به إلى الجناة الذين شردوا الإنسان الفلسطيني من أرضه، وانطلاقا من هذه الفكرة، يتبين أن السياب قد حاول التعبير عن الأوضاع السياسية المتوترة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، لذا برع في توظيف هذين الرمزيين المناسبين للتعبير عن هذه الحالة. يقول (السياب، أنشودة المطر، ص.44) :
“قابيل، أين أخوك، أين أخوك؟”
جمّعت السماء
آمادها لتصيح. كورت النجوم إلى نداء :
“قابيل، أين أخوك؟”
-“يرقد في خيام اللاجئين”
(…) والجوع لعنة آدم الأولى وإرث الهالكين
ساواه والحيوان ثم رماه أسفل سافلين.
يرمز السياب إلى الشر بشخصية قابيل، وكأنه يستحضر مع الرمز هذا فكرة قتل الإنسان لأخيه الإنسان في مختلف بقاع العالم، وعلى مدى التاريخ. لذا اتخذ هذا الرمز لتجسيد المعاناة الإنسانية، فنراه يسأل قابيل عن أخيه بشكل حزين، لأن السماء والنجوم تنادي قابيل، وتسأله عن أخيه. ولا يكتفي السياب بهذه القصيدة في استحضار هذه الصورة البشعة. إذ يقول في قصيدة “مدينة السندباد” (السياب، أنشودة المطر، ص.120) :
“الموت في البيوت يولد،
يولد قابيل لكي ينتزع الحياة
من رحم الأرض ومن منابع المياه،
فيظلم الغد”.
هنا يصور السياب ولادة قابيل ولادةً للموت، أي إنه سيعود ليقتل كل شيء مرة أخرى.
الموت يولد
قابيل يولد
قابيل هو معادل طبيعي للموت وحلوله = رمز الموت ورمز الظلم
“يحل الظلم”.
وهذا الموت سيسيطر على البيوت، وسينتزع الحياة من الأرض، لأن ولادة قابيل رمز ولادة الموت وقتل الحياة، حيث إن الظلم يعم المكان بكامله، ويعمد الشاعر إلى تكرار الفعل (يولد) لكي يبين أن ولادته ما هي إلا تأكيد على ولادة الموت الرهيب معه.
يظهر لنا مما سبق أن السياب استحضر رمز قابيل رمز الظلم في شعره، ليبين لنا كثرة الظلم المحيط به، إذ يسفك الأخ دم أخيه من دون رحمة، وبأسلوب بشع جدا. حيث يقول في قصيدة “قارئ الدم” (السياب، أنشودة المطر، ص.100):
“قابيل حدق في دماء أخيه أمس.
وأنت يأخذك الدوار
من رؤيا الدم وهو ينزف ثم يركد فالغبار
من تحته كفم الرضيع له اختلاج وافترار”.
يبدأ السياب بلفظة قابيل الذي حدق إلى دماء أخيه ليشير إلى سوء فعلته. ثم تحول من قابيل إلى ضمير المخاطب “أنت” من خلال عبارة (وأنت يأخذك الدوار)، وتشير الكاف إلى مخاطب آخر قد يكون القارئ ذاته، الذي لن يتقبل رؤية الدماء/ الموت وهو في ذلك يظهر صعوبة الموقف، فالناظر إلى دماء أخيه وهي تجري على الأرض، سيصيبه الدوار بسبب كثافة الدم التي يراها، والناتجة عن فعل النزف. وهكذا، نرى أن السياب قد تأثر بما يجري من حوله، وببشاعة القتل الذي يسفك بين الأخوة، وبين الإنسان وأخيه الإنسان. لذا، استحضر رمزي قابيل وهابيل للدلالة على الجانب البشع الذي يسيطر على حياة البشر، والجانب المضطهد في المقابل. كل هذا يعكس بعدا نفسيا مؤلما يعانيه السياب، لذا عبر عنه برمزية عميقة في قصائده تلك.
خاتمــة
وختاما، يمكننا القول أن المنجز الشعري لبدر شاكر السياب حافل باستلهام مضامين القرآن الكريم وقصصه وشخصياته النبوية المقدسة، إضافة إلى كون الشاعر يعمد إلى توظيف التناص وفق قانون الامتصاص أكثر، لأن هذا النوع من التناص يجنبه الوقوع في تكرار النص القرآني والاقتباس المباشر منه، كما أنه لا يدمر النص بل يسمح بالحفاظ على قداسته، حيث قلما نجده يجتر النص أو يحاوره، مما جعل نصوصه الشعرية ذات حمولة معنوية كثيفة، ولعل هذا مما جعل تجربة الشاعر غنية وفريدة، رائدة ومستقطبة الكثير من الأقلام النقدية، حيث حظيت بمتابعة واهتمام نقدي واسع النطاق بالمشرق العربي ومغربه على امتداد كل الفترات التاريخية بعد وفاة الشاعر.
قائمة بالمصادر والمراجع
- القرآن الكريم، رواية ورش عن نافع.
- إحسان عباس، بدر شاكر السياب دراسة في حياته وشعره، ، دار الثقافة، بيروت – لبنان، ط. 6، 1992.
- أحمد اسماعيل، النعيمي، تأملات في النص القرآني والخطاب الشعري ، دار دجلة، 2015.
- عز الدين، إ. (2010)، الشعر العربي المعاصر – قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، مصر، ط. 6.
- السياب، ب.(2016) الأعمال الكاملة، م. 2، دار العودة بيروت.
- السياب، ب.(2014) أنشودة المطر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر.
- الغرفي، ح.(د.ت) كتاب السياب النثري، جمع وإعداد وتقديم ، منشورات مجلة الجواهر، فاس، د. ط.
- سليمى،ع.، وطهماس، ع.(2012) التناص القرآني في الشعر العراقي المعاصر، دراسة ونقد، فصلية إضاءات نقدية، ع. 6.
- زايد، ع.، (1997) استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة.
- الجبوري، ك. (د.ت) معجم الشعراء 1-6 – من العصر الجاهلي إلى سنة 2002م،ج.1.
- بنيس، م.(1979) ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب- مقاربة بنيوية تكوينية، دار العودة، بيروت، لبنان، ط.1.
- الزواهرة، م. (2013) التناص في الشعر العربي المعاصر، التناص الديني نموذجا، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط.1.
- مندور، م. (د. ت): الأدب ومذاهبه، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ط.
- عبد النبي عبد المجيد، م. (2009): التراث الديني في شعر بدر شاكر السياب، مجلة الخليج العربي، جامعة البصرة، المجلد. 37، ع. 1 – 2.
* توظيف النصوص والرموز الدينية ورد في الشعر العربي القديم، إلا أنه أضحى ضرورة اقتضاها تطور الشعر الحديث وخاصة مع المدرسة الرمزية، مما أصبح يفرض على الشاعر التسلح بثقافة دينية ومعرفة واطلاع واسعين وعميقين بالتراث الديني ورموزه وغيرها كي يطور تجربته الشعرية ويغنيها، وهذا ما يؤكده السياب بقوله” لقد مضى الزمن الذي لم تكن فيه الثقافة ضرورية للشاعر لكي يصبح مجيدا فالموهبة وحدها لم تعد وحدها تكفي لخلق شعراء كإيديث ستويل وت. س. إليوث” ينظر: الولي خضر، آراء في الشعر والقصة، مطبعة دار المعرفة، بغداد 1956، نقلا عن(الغرفي حسن، د. ت. ص. 192).